عقل العويط في "السيد كوبر وتابعه": سيرة العزلة وظلال السيرة

مغامرة وجودية في صحبة كلب أمين

الشاعر والكاتب عقل العويط

عقل العويط في "السيد كوبر وتابعه": سيرة العزلة وظلال السيرة

يعود الشاعر والكاتب عقل العويط، في كتاب جديد بعنوان "السيّد كوبر وتابعُه"صادر عن "أنطوان هاشيت" *(بيروت/ باريس). في 156صفحة من القطع الوسط، مع غلاف أنيق هو كناية عن صورة لظلّه وظلّ كوبر، أما إهداء الكتاب فإلى أنسي، ابن العويط الوحيد، فلولاه ما كان لكوبر أن يكون "السيّد" وما كان للنص أن يبصرَ النور ولا كان ليكونَ كوبر عنوانَه وبطلَه وشخصيّته الوحيدة. وكوبر هو كلبه الذي تبنّاه أُنسي قبل ذهابه الى بريطانيا للتحصيل العلمي فتربّى عنده في سكنه تحت ظلال منطقة الأشرفيّة في العاصمة اللبنانية بيروت، فأضحى الشاعرُ تابعَه. كوپر هو السيّد وعقل تابعُه، وبناء عليه يوثّق الشاعر يوميات الكلب ويومياته معه، على مدى ستّ سنوات ماضية.

هي مغامرة كبرى في حياة عقل، هو الذي لم يُقِم، إراديا وبالتوافق والتفاهم، تحت سقف واحد مع أحد، وجد نفسَه مُقيما مع تابع حيواني هو المتبوع البشري، فألفى نفسه سعيدا على الرغم من كلّ التناقضات الشعوريّة والعقليّة التي عصفتْ به وهو على أبواب هذه المغامرة الكبرى في حياته.

رفيق العزلة

جاء التابع بالسيّد طفلا إلى مسكنه فواساه في عزلته، هو جريحُ الروح والعقل والوجود، مدُركا أنّ بعض أسباب عزلته كامنٌ، و لابدّ في تكوينه الجيني، وفي شخصيته الشعرية، في ما بعضها الكثيف نابع من عدم قدرته على التفاعل بسهولة مع الشعور بالاغتراب الناجم عن استغراق العالم الخارجي، واستغراق الآخر، في الدنيويّ الاستعراضي، وما يثيره فيه ذلك كلّه من إحساسٍ بالهشاشة والضجر.فأُنسي وكوبر غيّرا حياتَه. أُنسي أولا ودائما، إلا أنّ كوبر منحه صفاء نوعيّا لم يعرفْه عقل في حياته، على الرغم من أنه يعيش في العزلة وحيث الخراب الروحي يقضُّ وجودَه جراءَ ما آلت إليه آماله وما حفرتْه في كيانه من أثلام فظيعة، لا يعتقد أنها سوف تلتئم يوما.

هو جريحُ الروح والعقل والوجود، مدُركا أنّ بعض أسباب عزلته كامنٌ، ولابدّ في تكوينه الجيني، وفي شخصيته الشعرية

"السيّد كوبر وتابعُه"،إذن سِفر بَوْح ودفتر اعتراف، فيخاطبُ الشاعر رفيقه الأمين كاتم سرّه كوبر:

"يا لهذا الإنحطاط القِيمي، يا كوپر، الذي يجعلني أخافُ على نفسي من نفسي. لولا الحصانة الروحيّة الهائلة التي تُمسكُ بزمامي وتمنحني عزاء التوازن المكين المتوهّج، لكان ينبغي لي أن افكّر جديا في الاستقالة الوجوديّة".

كوبر هذا، رفيق عقل الأمين، يشدّه من ثيابه شدّا إلى الخارج، باعتبار هذا الخارج جزءا لا يتجزّأ من فضائه ومن إيقاعه، واعتاد أن ينزل معه إلى مكتبه في مبنى صحيفة  النهار، وبقي ينزل معه الى مكتبه إلى أن حصل الإرتكاب المشؤوم: تفجير المرفأ في الرابع من أغسطس/ آب 2020 فلم يبق مكتب ولا من يكتبون فيه، فكان التابع بعضا من السيّد وكان السيّد بعضا من التابع، فنشأتْ وحدةُ الحال بينهما، فيقرأ كوبر أحوال الشاعر على طريقته، مثلما يقرأُ الشاعر أحوالَ كوبر وأمزجته، حدّ أنه يميل إلى تصنيفه من أهل الأُنس والشعور، فيقرأ عليه وكوبر يقرأ عليه، شاخصاٍ إليه، فيعترف له ويعترف لنا:

"أخطاء حياتي الشخصية غائرة يا كوبر، ممتدّة جذورها إلى اللّاوعي. لكنها في اعتقادي أخطاء واعية، وقد أسلستُ لبعضها القياد، لاعتقادي أنّ الخطأ كالنزوة يمكن الالتفات عليه والقفز فوقه، كما لو أنّه نزقٌ عابر. كنتُ مخطئا في التقدير، يا كوبر".

اعترافات

بهذا الاعتراف الروسويّ (نسبة إلى جان جاك روسو)، المطعّم فرويديا، يقرّ الكاتب بما انزلقَ إليه، مستسلما لغواية الانفعال، إذ كان لا يُهادن في المسائل الأساسية، في ما كان يتقبّل أن يكون هو الوليمة، الأمر الذي جرّ عليه وبالا، إذ لم يكن جديرا بالجديّة التي يُفترض فيها أخذ الأمور الأساسية وتحمّل مسؤوليتها. وهذا اعترافٌ قطعٌ نادرٌ في أدب الحداثة عندنا يطرقُ بابَه عقل دون تردّد أو وجل، فيحيي فنّ السيرة في أُسلوب رومانسي وإن احتكمَ الى عقلنته. صار كوبر جزءا من حياة عقل، حتّى أنه صار أليفَه وظلَّه، فتماثل مزاجهما:

"السنوات السّت الفائتة، إلّا  أقلّها، خضّتْ حياتي، وساهمت في إعادة النظر في معناها، ووسّعّتْ لديّ  فكرة الحياة".

ترجمة ذاتية يسرد فيها عقل العويط فصولا من تجاربه وخبراته واعترافاته في نبض شاعري، والأهمّ بَوْحِه عن نفسه ومكنوناتها بجرأة

يقرّ عقل بأنه يجد نفسه في أحيان من الدهر غيرَ راضٍ حتى بالوجود برمّته، فيجد نفسَه مضطرّا، على الرغم منه، إلى إخراج كوبر من سجن البيت، الذي هو له الحريّة كلّها، والمدى كلّه، ذلك أن السيّد كوبر يستشعرُ ما آل إليه شرطه الشخصي في حياته مع تابعه، وشرطه الشخصي، لا بل الشرط الوجودي برمّته، هو من أسى العدم وقسوته الفظّة، وطريقه المسدود. وجود كوبر وسّع رقعة العيش في حياة الشاعر المُلهم، مُقّرا انه لولا ابنه أُنسي ما كان لكوبر أن يكون السيِّد كوبر، وأنه لولا أُنسي ما كان لهذا الكتاب أن يبصرَ النورَ.

أمين السرّ

"السيّد كوبر وتابعُه" هو ترجمة ذاتية يسرد فيها عقل العويط فصولا من تجاربه وخبراته واعترافاته في نبض شاعري، والأهمّ بَوْحِه عن نفسه ومكنوناتها بجرأة، فلم يزخرف ولم يُنمّق، بل أفصح عن موقفه مما يرى ويعاني معتمدا على كوبر أمين سرّه وناموس مكتبه ورفيق دربه في الكشف عن المستور والغوص على المحرمات، في أسلوب أنيق وكأنّه في صراحته ابن سناء المُلْك في إيجازه المُكثّف، فأهلكَ نفسَه إذ بخعها أي هدرها:

رحلوا فلستُ مُسائلا عن دارهمْ

أنا باخعٌ نفسي على آثارهمْ

font change

مقالات ذات صلة