جورج أورويل يغادر الجامعة الأميركية

جورج أورويل يغادر الجامعة الأميركية

في عام 1972 نشرت مجلة "نيويورك تايمز" مقالا بعنوان "حرية الصحافة"، تضمن المقال مقدمة كان كتبها جورج أورويل لكتابه "مزرعة الحيوان" الصادر سنة 1945 ولكنها لم تطبع وبقيت في الأدراج حتى قامت "نيويورك تايمز" بنشرها.

يقول جورج أورويل في مقدمته تلك: "إن أسوأ عدو يواجهه الكاتب أو الصحافي هو الجبن الفكري"، ويرى أن "هذا الأمر لم يحصل على النقاش الذي يستحقه".

قبل أسابيع وقعت عيني على هذا المقال بالصدفة، واستوقفتني هذه العبارة كثيرا، وإن كان أورويل كتبها في سياق حديثه عن رفض الكثير من دور النشر طباعة كتاب "مزرعة الحيوان" لا خوفا من الحكومة كما يقول، بل خوف من الرأي العام.

وإن كانت ملاحظة أورويل عن الخوف من الرأي العام قد كتبها عام 1945، فما الذي كان ليقوله اليوم مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وما بات الرأي العام يمارسه بحق كل من يذكر فكرة خارج "السائد" أو من يكتب عبارة لا تنسجم مع الخطابات الشعبوية المنتشرة؟

ثمة من يسارع بتخوين وترهيب الرأي الآخر لأنه في الواقع يهاب من النقاش

بعد عملية "طوفان الأقصى" التي قامت بها "كتائب القسام" الجناح العسكري لحركة "حماس"، وبعيد رد الفعل الإسرائيلي الهمجي ولكن غير المستغرب، وشن إسرائيل حربا شعواء على الفلسطينيين تسببت ولا تزال في مقتل آلاف المدنيين، فلم تستثن الأطفال والمستشفيات من همجيتها، كان للبعض رأي اختلف عن رأي الجموع، إذ سأل هؤلاء عن جدوى عملية "طوفان الأقصى".
ما هي إلا أيام قليلة حتى ظهرت لائحة، قيل بداية إن ناشطين فلسطينيين وعربا أعدوها لمن اتهموهم بأنهم "متصهينون عرب"، ليدخل بعدها "حزب الله" على الخط ويسوق أن هذه اللائحة وجدتها المقاومة ليلة 7 أكتوبر على كمبيوترات العدو، وأن كل من فيها يتلقى دعما ماليا من جهاز الموساد الإسرائيلي.
هذا المثال يتكرر منذ سنين وعند كل حدث يستحق أن يكون موضع نقاش وبحث. لكن ثمة من يسارع بتخوين وترهيب الرأي الآخر لأنه في الواقع يهاب من النقاش.
حدث الأمر نفسه في الجامعة الأميركية في بيروت قبل أسابيع، حيث ألغت إدارة الجامعة ندوة بعنوان "أخلاقيات الحرب في غزة"، كانت تضم كلا من أستاذ القانون والفلسفة في جامعة روتجرز بولاية نيوجيرسي، أليك والين، وبشار حيدر، أستاذ الفلسفة في الجامعة الأميركية.
بررت إدارة الجامعة قرارها بالتهديدات الأمنية، ورضخت لأصوات في مجملها مؤيدة لـ"محور الممانعة"، و"حزب الله" ترفض أن تسمع وتناقش أي رأي آخر، فلا أحد يبرر قتل المدنيين ولا جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، لكن البعض يبرر قتل الأطفال إن انتمى هؤلاء الأطفال إلى جنسيات أخرى أو ديانات أخرى.
بكلمات أورويل أصاب الجامعة الأميركية "جبن فكري"، ولكن معظم- ولا أقول كل- من شنت ضدهم حملات التخوين والاتهام بالعمالة والتهديد بالقتل بسبب موقفهم من "طوفان الأقصى" لم يجبنوا، بل واجهوا ودافعوا عن وجهة نظرهم، وإن كلفتهم وجهة النظر تلك الكثير.

"الجبن الفكري"، أو قد تصح تسميته "الرقابة الذاتية" التي يمارسها المرؤ على نفسه، أشد خطرا من رقابة الحكومات، فقد يصل الأمر بممارسها إلى الجمود

هذا "الجبن الفكري"، أو قد تصح تسميته الرقابة الذاتية التي يمارسها المرؤ على نفسه، أشد خطرا من رقابة الحكومات، فقد يصل الأمر بممارسها إلى الجمود أو النسخ، لا رأي خارج السائد والمنتشر، لا جديد ولا شيء يستحق فتح باب النقاش، نكتب ونتكلم فقط من أجل حصد التصفيق أو جمع اللايكات، ولكن كيف لكاتب أو مؤثر أن يتصف بالجبن؟ ما الأثر الذي سيتركه إن كان لا يملك الجرأة على قول ما يفكر به ويعتقده؟
إن الثورة على الأنظمة لن تصل بنا إلى الحرية، طالما أننا نمارس بحق أنفسنا والمختلفين معنا قمعا قد يكون أشد من قمع الأنظمة الديكتاتورية.

font change