وفرة في التكتيكات وفقر في الاستراتيجية

وفرة في التكتيكات وفقر في الاستراتيجية

غالبا ما تكون الحروب فوضوية، ومن الصعب استخلاص دروس محددة منها. ولكن مع ذلك، ثمة أمثلة متكررة لحقيقة بديهية منذ الحرب العالمية الثانية، تعود في هذه الأيام لتطفو من جديد في غزة: الدول القوية تتغلب على المعارضين الأضعف بقوة عسكرية هائلة، ولكنها في نهاية المطاف تغرق، بل وتهزم على المدى الطويل. وقد يكون ذلك بسبب عدم وضوح الأهداف الاستراتيجية أو السعي وراء أهداف غير قابلة للتحقيق.

يمكن أن يؤدي التفاوت في القوة إلى الثقة المفرطة في الدولة الأقوى، مما يؤدي إلى التركيز على التكتيكات الفورية بدلا من التركيز على تحقيق نجاح استراتيجي طويل المدى. هناك خطأ شائع يتمثل في الخلط بين التكتيكات والاستراتيجية أو الاعتقاد بأن التفوق التكتيكي يمكن أن يعوض عن استراتيجية معيبة أو مفقودة.

ومن الأمثلة المبكرة على ذلك ما حدث مع الفرنسيين في الجزائر في الخمسينات وأوائل الستينات؛ فقد اندلعت حرب وحشية عندما حاولت الحكومة الفرنسية الاحتفاظ بمستعمرتها (الجزائر) في مواجهة كفاح "جبهة التحرير الوطني" لإنهاء الاستعمار. وفي أعمال العنف التي صورها جيلو بونتيكورفو ببراعة في فيلم "معركة الجزائر" عام 1966، استخدم الجيش الفرنسي تكتيكات وحشية وفعالة، بما في ذلك التعذيب والقتل، لتقويض "جبهة التحرير الوطني" في الجزائر العاصمة على المدى القصير. ولكن في نهاية المطاف، انتهى النهج الفرنسي إلى الإفلاس استراتيجيا وفشل في منع الجزائر من الحصول على استقلالها عام 1962.

استخدمت الولايات المتحدة قوة عسكرية ساحقة في فيتنام؛ حيث أسقطت عليها قنابل أكثر مما استخدمت في الحرب العالمية الثانية بأكملها

وتقدم الولايات المتحدة لنا مثلا بارزا ومتكررا يسعدنا في التمييز بين التكتيكات والاستراتيجية، كما يظهر في نتائجها العسكرية المختلطة منذ الستينات. ومن الأمثلة الرئيسة على ذلك تورطها في فيتنام، حين دعمت فيتنام الجنوبية ضد الشمال الشيوعي؛ فقد استخدمت الولايات المتحدة قوة عسكرية ساحقة في هذا المسعى، حيث أسقطت قنابل على فيتنام أكثر مما استخدمت في الحرب العالمية الثانية بأكملها.

بالإضافة إلى ذلك، كانت رائدة في التكتيكات الشائعة لاحقا في الحرب على الإرهاب، مثل برنامج "فينيكس" التابع لوكالة المخابرات المركزية، والذي استهدف وقضى على عشرات الآلاف من مقاتلي الفيتكونغ الفعليين أو المشتبه بهم من خلال التعذيب والاغتيال. ورغم أن هذه التكتيكات أضعفت التمرد الشيوعي في فيتنام الجنوبية بشكل فعال، فإنها لم تقرب الولايات المتحدة من النصر في الحرب. وفي نهاية المطاف، أدى الصراع إلى خسارة ثلاثة ملايين من أرواح الفيتناميين، وانتهى بفشل الولايات المتحدة، على الرغم من هيمنتها العسكرية والاقتصادية.

AFP
طائرتا "ب 52" اميركيتان تقصفان معاقل لمقاتلي الفيتكونغ في فيتنام الجنوبية في 2 اغسطس 1965

وبعد فترة وجيزة من حرب فيتنام، أصبحت أفغانستان مركزا جديدا لإحراز نصر تكتيكي، أعقبته هزيمة استراتيجية. كان الاتحاد السوفياتي أول من قام بالغزو في 24 ديسمبر/كانون الأول 1979، لفرض سيطرة أكبر على ما اعتبره دولة عميلة. ومن خلال قوتهم العسكرية العظمى، أطاح السوفيات سريعا بالحكومة الأفغانية، وفرضوا زعيما أكثر ولاءً، واحتلوا العاصمة كابول وغيرها من المراكز الحضرية الكبرى. ولكن خطط الحملات قصيرة المدى أفسحت في المجال لاحقا أمام صراع طويل الأمد ضد المجاهدين، حيث فشل السوفيات في فرض سيطرتهم على مساحات واسعة من الريف الأفغاني على الرغم من نشر قوتهم العسكرية الساحقة. وفي النهاية، اضطرت موسكو إلى سحب قواتها من أفغانستان في فبراير/شباط 1989.

النتائج المتناقضة لحربي العراق الأولى والثانية تسلط الضوء على الأساليب المختلفة في التعامل مع العلاقة بين التكتيكات والاستراتيجية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها

أما الجولة الثانية بالنسبة لأفغانستان فسوف تشمل الولايات المتحدة وكثيرا من حلفائها في حلف شمال الأطلسي عقب الهجمات الإرهابية التي وقعت في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001. لقد أسقط التحالف الدولي حكومة طالبان بالقوة العسكرية وأضعف وجود تنظيم القاعدة في البلاد؛ ولكن ثبت في النهاية أن تحقيق نصر استراتيجي من خلال تدمير طالبان كقوة قابلة للحياة وبناء دولة مستقرة وديمقراطية في أفغانستان أمر غير قابل للتحقيق رغم مشاركة الجيوش الأكثر تقدما في العالم وإنفاق أكثر من تريليوني دولار أميركي. وها هي طالبان قد استعادت السلطة منتصرة في أغسطس/آب 2021، وخرج الأميركيون كما خرج السوفيات من قبلهم.

AFP
وزير الدفاع الاميركي لويد اوستن اثناء مؤتمر صحافي في تل ابيب في 18 ديسمبر

إن النتائج المتناقضة لحربي العراق الأولى والثانية تسلط الضوء على الأساليب المختلفة في التعامل مع العلاقة بين التكتيكات والاستراتيجية من قبل الولايات المتحدة وحلفائها. وقد أظهرت حرب الخليج عام 1991 استراتيجية مركزة: استخدام القوة العسكرية المتفوقة لطرد القوات العراقية من الكويت، التي غزاها العراق في أغسطس/آب 1990. وكان الهدف محددا ولم يمتد إلى تغيير النظام السياسي في الكويت أو الإطاحة بصدام حسين في العراق.
وفي المقابل، كان لحرب العراق عام 2003 هدف أوسع وطموح. ولم تكن تهدف إلى إزالة صدام حسين ونظامه البعثي فحسب، بل كانت تهدف أيضا إلى تحويل العراق إلى نظام ديمقراطي على النمط الغربي، مع إجراء انتخابات حرة ونزيهة. وبينما حققت الولايات المتحدة وحلفاؤها نجاحا تكتيكيا سريعا، كانت النتيجة الاستراتيجية كارثية؛ فقد أشعلت الحرب تمردا وحربا أهلية طائفية، مما أدى في النهاية إلى ظهور تنظيم "داعش" ونشر المزيد من عدم الاستقرار. وأدت هذه الفوضى إلى مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين. واستمرت الاضطرابات، التي كان آخر تجسيد لها اغتيال الولايات المتحدة لزعيم ميليشيا عراقية في بغداد يوم 4 يناير/كانون الثاني 2024.
لقد أصبحت التكتيكات التي استخدمها الأميركان لأول مرة في فيتنام سلاحا أساسيا في ملاحقة تنظيم "القاعدة" فيما يسمى "الحرب على الإرهاب". وقد أثبتت هذه التكتيكات، وخاصة ضربات الطائرات المسيرة، فعاليتها ضد تنظيم "القاعدة"، وخاصة قيادته. ومع ذلك، لم يكن من المستغرب أن يكون الهدف الاستراتيجي الأميركي الأولي المتمثل في إنهاء الإرهاب العالمي بعيد المنال. وقد تحقق نجاح محدود ضد تنظيم "القاعدة"، على الرغم من أنه لا يزال كيانا قائما وإن كان ضعيفا. ولكن النجاح ضد تنظيم "القاعدة" قوضته الإخفاقات في أفغانستان والعراق، وأدى ذلك مجتمعا إلى أكثر من ضعف عدد الوفيات الأميركية التي حدثت في 11 سبتمبر/أيلول.

يبدو أن النهج الإسرائيلي الحالي في التعامل مع غزة يتوسع من "قص العشب" إلى "تخريب العشب وتمليح الأرض تحته"

وهكذا الحال مع غزة. تمتلك إسرائيل القدرة على تدميرها بالكامل وهي بصدد جعل مساحات واسعة منها غير صالحة للسكن، إضافة لقتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين. في الماضي، كان المسؤولون الإسرائيليون يشيرون إلى الحاجة لـ"قص العشب" من حين لآخر في غزة، وهو الخطاب الذي ردده بعض الأميركيين بعد ذلك فيما يتعلق بالحرب على الإرهاب. يشير هذا التشبيه إلى استخدام القوة العسكرية لقمع التهديدات المتصورة بشكل مؤقت، وهو تكتيك يفشل في معالجة الأسباب الكامنة وراء المقاومة.
ويبدو أن النهج الإسرائيلي الحالي في التعامل مع غزة يتوسع من "قص العشب" إلى "تخريب العشب وتمليح الأرض تحته". وينعكس هذا في الفيلم الوثائقي "حراس البوابة" عام 2012، حيث ينتقد الرئيس السابق لجهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي (الشين بيت) الافتقار إلى استراتيجية طويلة الأمد في التعامل مع المقاومة الفلسطينية، مشيرا إلى التركيز على التكتيكات دون رؤية استراتيجية. والحال أن إسرائيل تفتقر، على الرغم من كفاءتها التكتيكية، إلى استراتيجية شاملة لمعالجة المظالم الفلسطينية. وقد أدى ذلك إلى استمرار دائرة العنف لعقود من الزمن، دون نهاية واضحة في الأفق.

font change