مسلسل "جثث"... أسرار وألغاز عابرة للأزمنة

الجريمة في قناع الخيال العلمي

Netflix
Netflix

مسلسل "جثث"... أسرار وألغاز عابرة للأزمنة

تتقاطع دراما المسلسل الإنكليزي المثير "جثث" (Bodies)، إنتاج "نتفليكس"، في أربعة أزمنة، 1890، 1941، 2023، و2053. الدراما مأخوذة عن قصة مصورة للكاتب البريطاني سي سبنسر بعنوان "دوار" (Vertigo)، 2015. كتب المسلسل لشاشة التلفزيون، بول تومالين الذي افتقد كثيرا لمسة الكوميديا التي تخفف وطأة العبث الأهوج بالزمن، أو تمرّر إشارة تواطؤ من الكاتب بأنه يلعب لعبة فنية، ويدعونا إلى المشاركة، بصرف النظر عن نوع الدراما، وهي الخيال العلمي.

أمّا المخرج ماركو كروزبينتنر فقد راعى تنفيذ الانتقالات الزمنية بسلاسة ونعومة، عبر تقسيم الشاشة، وتوزيع الأزمنة على مساحتها، ثم تداخل التقسيمات وذوبانها، بهدوء وانسجام، وبمساعدة الموسيقى. لكن يبقى دور كاتب السيناريو في الأعمال التلفزيونية، أهم نسبيا من الإخراج، إلا في حالات قليلة، عندما يكون اسم المخرج كبيرا في المجال السينمائي، على سبيل المثل، أن يأتي ديفيد لينش من عالَم السينما إلى عالَم الفيديو، ويخرج مسلسل "توين بيكس"، عندئذ فقط يكون الإخراج أهم من السيناريو.

جثة تحرّك الأحداث

في مسلسل "جثث"، هناك جثة واحدة، تُحرّك الأحداث، وتسافر في أربعة أزمنة، على امتداد 8 حلقات حافلة بالغموض والألغاز، واضعة أربعة محققين، أمام تحدّي التفسير. الممثلة أماكا أوكافور في دور الشرطية السمراء المسلمة، شهارة حسن، تجد في عام 2023 جثة عارية في شارع "لونغ هارفست" أثناء تأمين تظاهرة لليمين المتطرف البريطاني، ومطاردتها لمراهق، بدا أنه يقودها إلى موقع الجثة.

هناك جثة واحدة، تُحرّك الأحداث، وتسافر في أربعة أزمنة، على امتداد 8 حلقات حافلة بالغموض

وفي عام 1941 تطلب سيدة غامضة من الممثل جاكوب فورتشن لويد في دور المحقق كارل وايتمان، أن ينقل جثة من شارع "لونغ هارفست" إلى مكان آخر، وهي الجثة نفسها التي وجدتها شهارة حسن، وبالوضعية نفسها للجسم النائم على جانبه عاريا، ووشم في معصمه، وثقب يخترق عينه. أيضا في عام 1890 يجد الممثل كايل سولير في دور المحقق ألفرد هيلينغهيد، الجثة نفسها، في الشارع نفسه، والوضعية ذاتها.

 أخيرا يأتي التفسير من زمن المستقبل 2053. عالِم فيزياء الكم، الدكتور غبريال ديفو، يتحدّث في محاضرة عن جسيم "دويتش" الذي ينقسم جسيمين عند اصطدامه بمفردة من المادة المظلمة، جسيم يذهب إلى الماضي، وجسيم يذهب إلى المستقبل. ربما يقصد السيناريست بول تومالين، مُقاربة حقائق ميكانيكا الكم، مثل التشابك الكمي بين جسيمين، واحد هنا، وآخر على أطراف مجرة أندروميدا التي تبعد عنا 2.5 مليون سنة ضوئية، ومع ذلك يرتبط الجسيمان واحدهما بالآخر، ارتباطا لحظيا، وأبديا، وهو ارتباط يحطم نظرية النسبية، مما جعل آينشتاين يقول بإحباط عن هذا الارتباط: العمل المخيف عن بُعْد. كل فبركات قصص الخيال العلمي، تقوم على نقل حقائق فيزياء الكم المخيفة، نقلا خشنا بدائيا، للأجسام الكبيرة، فيصبح البطل قادرا على الوجود في مكانين وزمانين مختلفين في آن واحد، مثل إلكترون المادة.  

ديستوبيا

الممثلة شيرا هاس في دور المحققة الشرطية آيريس ميبلوود، تعيش في مدينة ديستوبية ناجية من انفجار نووي حدث في 2023. المدينة يحكمها الممثل ستيفن غراهام في دور القائد اليميني، الشمولي، إلياس مانيكس، المؤمن بنظرية مؤامرة كونية على مدينته البائسة، ويرى من الضروري القبض على عالِم الفيزياء ديفو، أو مراقبته، قبل وقوعه في يد جماعة "تشابل بيرلوس" الإرهابية. يتعلق الأمر دائما في قصص الخيال العلمي باختراع آلة السفر في الزمن.  

الكابوس الذي يواجه المخرجين في الأعمال الدرامية التلفزيونية والسينمائية معا، هو تأثير شكل آلة الزمن بصريا على المُشاهِد. هنا يكون المخرج مُجبرا جماليا على منافسة النماذج القوية التي ظهرتْ على الشاشة، وغالبا كان ظهورها على الشاشة السينمائية، على سبيل المثل، آلة الزمن في فيلم "اثنا عشر قردا" Twelve Monkeys، 1995.

سنفترض أن المخرج ماركو كروزبينتنر قادر على منافسة تيري غيليام، مخرج فيلم "إثنا عشر قردا"، لكن قد لا تسمح "نتفليكس"، على الرغم من إمكاناتها المادية الهائلة، بتكلفة كبيرة لآلة زمن، تظهر في مسلسل تلفزيوني. يبقى الحل المتواضع أمام ماركو كروزبينتنر، مخرج مسلسل "جثث"، وهو أن آلة الزمن لا تتعدى أطباقا لامعة من المعدن، وبعض البقع الضوئية الحمراء التي يعبر منها الجسم البشري، فيسافر في الزمن.  

تتكاثر في مسلسل "جثث" عبارة على لسان الأشرار، وهي "أنت تعرف أنك محبوب"، تُقال العبارة في الأزمنة الأربعة للأخيار الذين يبحثون في لغز جثة عالِم الفيزياء غبريال ديفو. بطل طائفة الأشرار هو الممثل ستيفن غراهام الذي يظهر في الأزمنة الأربعة، زمن 1890، باسم سير جوليان هاركر، الفيكتوري الثري، المشوش بخليط من أفكار الماسونية وتحضير الأرواح، وفي زمن 1941، يظهر عجوزا يخفي في قبو بنكه، قنبلة نووية، سيفجرها المراهق مانيكس في زمن 2023، وأخيرا يظهر في هيئة القائد المستقبلي إلياس مانيكس الذي يسافر في الزمن، عابرا من زمن 2053 إلى زمن 1890، ليعيد حياة سير جوليان هاركر، بتصويبات يعجز سيناريو المسلسل "جثث" عن الإفصاح عنها.  

المحققة آيريس ميبلوود تُركِّب في أعلى ظهرها شريحة معدنية، تُشحَن كل فترة زمنية، وتسمى تلك الشريحة من زمن الذكاء الاصطناعي، باسم "سباين"، وهي تساعد المصابين بالشلل على الحركة الطبيعية. أحد أحلام الخيال العلمي، أو الذكاء الاصطناعي، هو مزج اللحم مع الحديد، أو مصالحة أجسامنا الرطبة Wetware على الأجسام الصلبة Hardware، كما في فيلم "ماتريكس"، وهو من أقوى المصالحات الفنية بين اللحم والحديد، الفتحة الحديد خلف رأس كيانو ريفز، بطل المستقبل نيو. 

أحد أحلام الخيال العلمي، أو الذكاء الاصطناعي، هو مزج اللحم مع الحديد، أو مصالحة أجسامنا الرطبة على الأجسام الصلبة

يبقى اختيار الممثلة شيرا هاس، لزمن 2053، في دور المحققة آيريس من أفضل اختيارات طاقم التمثيل في مسلسل "جثث"، بجسمها الضئيل، وتسريحة شعرها الغريبة، وكأنها إحدى شخصيات الإطفاء المكلفة حرق الكتب في فيلم "451 فهرنهايت" المستقبلي الديستوبي للمخرج فرنسوا تروفو. تقتل آيريس عالِم الفيزياء غبريال ديفو برصاصة في عينه، دفاعا عن سلطة قائدها إلياس مانيكس. هنا نعرف من أين جاءتْ لعنة الجثة. جاءتْ من المستقبل، لتصيب الزمن.  

أسئلة معلقة

هناك أسئلة تبقى معلقة، لا إجابة عنها في مسلسل "جثث". مثلا، لماذا كانت التحقيقات في زمن 1890 تدفع المُشاهد لإدانة سير جوليان هاركر بجريمة؟ بل إن جوليان ذاته تحرّك كمَنْ يقبل الإدانة. أيضا في زمن 1941 لماذا أمرتْ زوجة جوليان هاركر المحقق الفاسد كارل وايتمان بنقل الجثة إلى مكان آخر؟ أمّا شخصية آيريس فمن المفترض أن تكون هي القاتل الأول لعالِم الفيزياء غبريال ديفو، لكنها وجدتْ جثته قبل قتله بالفعل للمرة الأولى، أي أن الجثة جاءتْ من مستقبل أبعد من زمن 2053. هل هي جثة افتراضية؟ وإذا كانت جثة افتراضية آتية من المستقبل بإطلاقه، ولن يؤثر على افتراضيتها عدد مرات القتل، فلماذا لم نر قاتلا لها في أزمنة 1890، 1941، و2023، كما رأينا في زمن 2053؟   

التفسير الوحيد هو أن سيناريست مسلسل "جثث"، بول تومالين، أخذ في مراكمة الألغاز والأسرار ومضاعفتها، والهروب إلى الأمام، لصالح الإثارة والمتعة، طوال الحلقات الأولى، وعندما حانتْ لحظة الحساب في الحلقات الأخيرة، لم يستطع تسديد الدين الدرامي، أو لم يستطع وضع قطع البازل الختامية في أماكنها الصحيحة، ليبدو البناء كاملا.     

ملحوظة أخيرة. كان على جهة الإنتاج، "نتفليكس"، وصنّاع مسلسل "جثث"، الحذر من التحية الوطنية للقائد الفاشي اليميني إلياس مانيكس بوضع اليد اليمنى على الصدر، ناحية القلب، وهي التحية الوطنية نفسها للرئيس الأوكراني فولودمير زيلينسكي. الخطأ، بالتأكيد، غير مقصود.  

font change

مقالات ذات صلة