أبعاد البراءة والحقيقة في "تشريح سقوط"

أسئلة وجودية وأزمات زوجية تحت ستار جريمة قتل

 HANDOUT
HANDOUT

أبعاد البراءة والحقيقة في "تشريح سقوط"

يبدأ فيلم "تشريح سقوط" Anatomy of A Fall المرشح لجوائز أوسكار 2024، بمشهد غريب ومشتت يبعث على التوتر على الرغم من عدم معرفة المشاهدين بما هو قادم، إنه ليس مشهدا سرياليا أو خياليا على الإطلاق، لكن الفوضى الأشبه بحلم تمنحه غرابته الفائقة، بداية من الكلب الذي يهبط الدرج ويلقي نظرة مليئة بالدهشة، ثم الطفل الضرير الذي ينادي هذا الكلب ويغسله بكل حب وتأن، حتى نصل إلى حوار يجمع روائية مع طالبة تجري معها مقابلة في جو يغمره الغزل، وزوج معزول في العلية يشغل أغنية لمغني الراب الأميركي "فيفتي سينت" بصوت عال لدرجة استحالة إكمال المقابلة. حينما نتذكر هذه البداية بعد نهاية الفيلم، نشعر أن المخرجة نثرت قطع الأحجية بالكامل على الأرض ومن ثم أعادت تركيبها بكل ترو.

الفيلم من إخراج جستين ترييت ويرافقها في كتابته آرثر هراري، وهو من بطولة ساندرا هولر وسوان آرلاود وأنطوان رينارتز ومايلو غرانر وصموئيل ثيس. يتحدث الفيلم عن الكاتبة ساندرا فويتير، التي يلقى زوجها حتفه في ظروف غامضة ونظرا لعدم توافر نظريات مقنعة عن قاتل آخر أو محاولة انتحار، تتهم بجريمة القتل ويصبح عليها أن تثبت براءتها أثناء العناية بابنها الوحيد والمتضرّر من حادث حصل أثناء سنواته الأولى أدى إلى ذهاب بصره بشكل شبه كامل.

تسارع

منذ اكتشاف الجثة نشاهد التسارع الرهيب في سرد القصة، وسط كثبان الثلوج والخلاء الرهيب المحيط بالمنزل، يحدث كل شيء بسرعة جنونية، لا يعطي الفيلم فرصة لشخصياته للتنفس ولنعي الميت، لأن هناك جريمة قتل محتملة يجب أن تُفكّ شفرتها. أما حينما تبدأ التحقيقات، فالفيلم يأخذ كامل وقته في استعراض النظريات ودراسة الحقائق، ويجري المحققون التجارب لمصادقة أقوال الشهود، ويدرسون الحقائق عن كثب في إثبات أن هناك جانب "حِرَفيا" في عملهم.

هكذا تتحول ساندرا من امرأة تعاني من مشاكل زوجية إلى متهمة بجريمة قتل بسبب تسجيل صوتي واحد

بداية المحاكمة بعد ذلك، تعلن فصلا جديدا في الفيلم، في محكمة بديعة التصميم ومع مدع عام يلتهم كل من يقف في طريقه (أنطوان رينارتز). تسلط المحاكمة الضوء على جوانب درامية عدة، فعلى السطح هي محاكمة ساندرا فويتير في قضية مقتل زوجها، ولكن تحت ذلك هي محاكمة لشخصيتها، هل هي زوجة صالحة وأم حنون؟ أم أنها تخلصت من زوجها حتى تتسنى لها مواصلة خيانته؟ موقف ساندرا المستحيل يكمن في كونها عالقة في أزمة ثنائية، فإدانتها تعني أنها قتلت زوجها وسوف تخسر ابنها، وبراءتها تعني أنها زوجة شنيعة إلى درجة قيادة زوجها إلى الانتحار.

تحولات

من المخيف كيف تتحول الخلافات الزوجية والمشادات الكلامية إلى دوافع للقتل تحت الظروف المناسبة، وهكذا تتحول ساندرا من امرأة تعاني من مشاكل زوجية إلى متهمة بجريمة قتل بسبب تسجيل صوتي واحد تساقطت بعده جميع قطع الدومينو. لم تكن ساندرا تدافع عن نفسها فحسب، بل تدافع عن زواجها وعن أمومتها. أحد أحزن مشاهد الفيلم وأكثرها شاعرية هو مشهد ساندرا وهي تحدّث ابنها دانييل بعد يوم محاكمة طويل، كشف خلاله المزيد من المشاكل الزوجية، تقول: "إن والدك كان توأم روحي، اختار واحدنا الآخر وأنا أحببته، لكن كيف يمكن للمرء إثبات ذلك؟". يمكن للحقائق والأدلة إثبات جرم أو براءة، لكن كيف يمكن إثبات الحب؟ كيف يمكن تحديد منطقة المشاعر وتحويلها إلى أشياء ملموسة؟ لم تعد ساندرا تدافع عن نفسها بل تدافع عن حبها، في تلك المحاكمة التي تتطرق إلى كافة جوانب حياتها إلى درجة التدخل في أسلوبها الروائي. لا تعود المحاكمة متعلقة بمقتل زوجها بل بصدق مشاعرها، هل حينما اعترفت بخيانتها له تابت توبة نصوحا؟ هل حينما وعدت بإعطائه فرصة لممارسة الكتابة كانت تعني ذلك حقا أم أنه مجرد وعد زائف آخر؟

 HANDOUT

لا ينحاز الفيلم لأي من الطرفين، بل من خلال أداء عظيم لساندرا هولر نشاهد تباينا واضحا في شخصيتها يجعلنا في موضع حيرة من براءتها. ساندرا بعد مقتل زوجها تبعث على الشفقة في كل مشهد، لا يمكنك سوى تمني حصولها على البراءة بسبب فيض الحنان والانكسار اللذين ينبعان من شخصيتها، ولكن في مشهد الاستعادة الزمنية (فلاش باك) الوحيد الذي أظهرها مع زوجها صموئيل في خلاف محتدم، تظهر بصورة مغايرة تدعم احتمال أنها قد تكون متلاعبة من الدرجة الأولى، تغيّر دفة الحوار بكل اقتدار وتقلب الطاولة عليه في كل فرصة بكل سلاسة محطمة حججه وادعاءاته.

يطرح الفيلم أسئلة عن الحب والخيانة والأمومة والتضحية في وجه الأزمات الأخلاقية

لكن كما يمكن تفسير المشهد بصورة سلبية ضدّ ساندرا، لا يمكن إنكار حقيقة أن الزيجات معقدة والعديد منها مليء بمثل هذه النقاشات والخلافات، لا يعني ذلك أن كل من يتحكم بدفة الحوار ينوي ارتكاب جريمة قتل. وفي خضم دفاع ساندرا عن نفسها خلال المحاكمة تذكر هذا الأمر وأنه من غير المنطقي وضع الزيجات في قالب واحد خالٍ من المشاكل والصراعات.

على الرغم من الأخطاء الزوجية التي ترتكبها ساندرا مثل خيانة زوجها وإخباره بنيتها ممارسة علاقات أخرى مع أشخاص جدد، لا يعطي الفيلم نفسه حق الحكم عليها، فكيف يمكن لساندرا أن تشارك صموئيل السرير نفسه وهو بنفسه تذكير دائم على إهماله الأبوي الذي أدى إلى فقدان بصر دانييل؟ إن التعايش يختلف جذريا عن الغفران، يمكن لساندرا أن تتعايش مع صموئيل تحت ظروف معينة، لكن من المستحيل أن تعود الأمور إلى طبيعتها.

أسئلة ضارية

حدة الأسئلة وضراوة طرحها في هذا العمل، هما مما يبعث على الإعجاب، وما يصعب الأمر هو أن الطريق الوحيد لخلاص ساندرا من هذه المشكلة هو بتدمير إرث زوجها وتلطيخ اسمه في المحاكمة قدر الإمكان. لم تعد المحاكمة بخصوص كونها زوجة صالحة وأما حنونا، بل أصبحت شبيهة بتحدّ شخصي لها، إلى أي درجة هي مستعدة لتمريغ ذكرى زوجها في التراب حتى تحصل على براءتها؟ فهي تضطر إلى الهجوم على قدراته الأدبية، وكفاءته الجنسية، بل حتى اكتئابه وحزنه لا ينجوان من هذا الهجوم. أثناء كل ذلك نحن لا نعرف صموئيل حقا، لقد شاهدنا جثته قبل أن نتعرف إليه، وما نشاهده في الفيلم هو مجرد ذكريات متفرقة عنه، لا يمكن تكوين فكرة حقيقية عن هذا الشخص ويجب علينا النظر إلى كل ما قدمته ساندرا وفريق الدفاع والادعاء ومن ثم تقرير ما إذا كانت مذنبة أم لا.

 HANDOUT

ينصب الفيلم الطفل دانييل شخصية محورية، ويرافق هذه الأهمية مراعاة واضحة لثيمة الصوت. بداية من افتتاحية الفيلم والموسيقى الصاخبة التي تبعث على التوتر، امتدادا إلى بعض المشاهد التي نشاهد فيها ملامح وجه دانييل فقط وهو يستمع إلى المحاكمة، وحتى معزوفات البيانو الكلاسيكية التي تهدئ من روحه في وسط عاصفة المشاعر التي تثيرها المحاكمة. يحاول الفيلم وضعنا في موقف دانييل الصعب وهو يحاول استقصاء براءة أمه من عدمها من خلال صوتها فقط، دون النظر إلى ملامح وجهها ولغة جسدها. أداء الطفل مايلو غرانر صاعق، وفي كل مرة اعتمد الفيلم عليه لتوجيه ضربة عاطفية للمشاهدين كان ينتهزها بكل نجاح.

 HANDOUT

في نهاية الرحلة المنهكة عاطفيا التي يقدمها فيلم "تشريح سقوط"، نقف أمام تساؤلات أعمق وأكثر تركيبا من جريمة قتل، يطرح الفيلم أسئلة عن الحب والخيانة والأمومة والتضحية في وجه الأزمات الأخلاقية. لا نملك الحقيقة ويظل التساؤل عالقا في أذهاننا بخصوص براءة ساندرا من عدمها.

font change

مقالات ذات صلة