لقد تقدم فيلسوف التنوير العبقري إيمانويل كنط بمشروع متعدد الجوانب، وفلسفته جديرة بأن تكون مرجعا للعالم، وإن كانت المساحة تضيق عن وصف إنجازه بصفة كاملة. في ما يتعلق بالسلام، دعا الحكيم إلى سلام شامل دائم بين كل البشر، وأوضح كيف يمكن أن يكون هذا واقعا فعليا لا مجرد شعارات فارغة. وذلك أن هذا المشروع يدخل في عالم العقل العملي وأعلاقه الأخلاقية، لا العقل النظري الخالص، أي أنه يسري في العالم المحسوس المعيش.
كان يحمل حلما كبيرا، مع أنه يعترف بأن السلام ليس الأصل، بل الحرب، فهي النتيجة الواقعية لأطماع البشر وجشعهم وإيثارهم لأنفسهم. لكن من الناحية البراغماتية الخالصة، سيكون من خير الإنسان أن يعيد تعيين زاوية النظر. سبقه إلى هذا توماس هوبز عندما قال: "الإنسان ذئب أخيه الإنسان". حديث هوبز هنا عن الحالة الطبيعية قبل قيام الدولة.
بالنسبة إلى كنط، يجب أن تنتهي الحالة الطبيعية، لأن بقاء بعض البشر عليها مهما قل عددهم يعتبر تهديدا بعودة حالة الحرب. ولذلك دعا إلى تعاقد اجتماعي ليس خاصا بدولة، بل لكل دول العالم التي أرشدها إلى أن تتحد في "عصبة واحدة". عصبة تقوم على احترام الحرية، حريتي تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين، لكي يمكن تحقيق العيش المشترك القائم على صيانة الكرامة الإنسانية. وكل هذا ليس من قبيل الكلام الطائر في الهواء، وإنما يجب تدوينه في قوانين تسري على الجميع.
ولا يمكن أن ينجح مشروع السلام إلا بشرط أساس هو وجود النية الصادقة لتحقيقه لذاته وليس بسبب مصالح جانبية. البراغماتية الحقة هي أن ندرك أن من مصلحة الجميع أن يسعوا لإنجاح مشروع السلام، وأنه من الضار لهم جميعا البقاء على الحالة الطبيعية التي ترحب بالحروب ومشاهدة الأطفال وهم يُقتلون عبر أجهزة التلفزة.
إيقاف الحروب شيء عظيم، لكن طموح كنط لم يقف عند هذا الحد، بل وضع تصوراته للطريقة التي يمكن بها منع قيام أي حرب مقبلة في المستقبل، وذلك بالبحث والتحليل في أسباب الحروب وكيف يمكن تحاشيها.
لتحقيق ذلك، لا يقبل كنط بأي معاهدة سلام سرية إذا انطوت على أمر يمكن أن يؤدي إلى حرب مستقبلية.ولا يجوز عنده إخضاع أي دولة مستقلة، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، لسيطرة دولة أخرى، لأي سبب كان. ويقفز طموحه بعيدا فيطالب بإلغاء الجيوش الدائمة إلغاء كاملا، بشكل تدريجي. ولا يبيح لأي دولة أن تتدخل بالقوة في دستور أو حكومة دولة أخرى. ولا يجوز لأي دولة خلال الحرب، إن وقعت، أن تسمح بالأعمال العدائية التي من شأنها أن تجعل الثقة المتبادلة في السلام اللاحق أمرا مستحيلا، مثل استخدام القتلة والسموم، وخرق شروط الاستسلام، والتحريض على الخيانة في الدولة المحاربة.