في سنة 1956، تقدم الطالب فريد كآن إلى إدارة جامعته، جامعة ماريلاند، يطرح عليهم استضافة "مناظرة رئاسية" بين المرشح الديمقراطي أدلاي ستيفنسون، وخصمه الجمهوري دوايت أيزنهاور. ولدت الفكرة بعد أن وصف ستيفنسون الأجواء الانتخابية "بالأقرب إلى السيرك" وقد بنى كآن هذا الكلام عند قراءته في إحدى الصحف. كان كآن (البالغ من العمر 23 سنة في حينها) ابن أسرة يهودية مهاجرة من ألمانيا هربا من النازية. استقرت بداية في بلجيكا، ثم في الولايات المتحدة الأميركية، حيث خدم ابنها الجيش في أثناء الحرب الكورية، ونال مقابلها الجنسية الأميركية سنة 1953. وفي الجامعة بعدها بثلاث سنوات، طرح مشروعه الطموح، دون أن يدرك أنه سيغير مستقبل الانتخابات الأميركية.
وكتب فريد كآن إلى معظم الصحف اليومية لتبني فكرته، وإلى شخصيات سياسية نافذة مثل إليانور روزفلت (حرم الرئيس الأسبق فرانكلن روزفلت) ولكن مجلس أمناء جامعة ماريلاند رفض الفكرة، مسوغا قراره بأن السياسة ممنوعة في الحرم الجامعي. انتظرت المناظرات الرئاسية حتى سنة 1960 لترى النور، وتحديدا يوم 26 سبتمبر/أيلول، عندما واجه المرشح الديمقراطي جون كينيدي مرشح الحزب الجمهوري ونائب الرئيس في حينها ريتشارد نيكسون. أدار الصحافي المرموق هاوارد سميث أولى المناظرات الرئاسية، بإشراف ومشاركة لجنة تحكيم مؤلفة من محطات "ABC News" و"CBS" و"NBC".
من أين استلهم فريد كآن فكرة المناظرة؟
لم يشر أحد في حينها إلى أن فكرة المناظرة جاءت من الشاب فريد كآن، الذي قضى حياته في العمل الحكومي، وبعد تقاعده، بدأ يكتب للصحف الأميركية سنة 2012، واصفا نفسه بأنه "مخترع المناظرات الرئاسية". لا نعرف عنه أكثر من ذلك، ولا علم لنا إن كانت فكرة المناظرات قد ولدت من مخيلته حقا أم إنه استلهمها من المناظرات التي كانت تعقد على عضوية مجلس الشيوخ سنة 1858، بين مرشح الحزب الجمهوري أبراهام لينكولن ونائب إلينوي الديمقراطي ستيفان دوغلاس. حيث جرت سبع مناظرات بينهما، وجها لوجه دون أي منسق، قبل أن يترشحا ضد بعضهما البعض في الانتخابات الرئاسية التي فاز بها لينكولن سنة 1860. وفي سنة 1940 دعا المرشح الجمهوري ويندل ويلكي الرئيس فرانكلن روزفلت إلى مناظرة رئاسية، ولكن الأخير لم يقبل التحدي، وبعدها بثماني سنوات، جرت مناظرة إذاعية بين مرشحي الحزب الجمهوري على تمثيل حزبهما في الانتخابات الرئاسية، وقد تبعهما الحزب الديمقراطي بمناظرة إذاعية مشابهة سنة 1956، تمهيدا للمناظرة التلفزيونية الأولى بين جون كينيدي وريتشارد نيكسون، التي ولدت من رحم مقترح فريد كآن عام 1960.
مناظرة كينيدي– نيكسون (1960)
ظنّ الناس أن نيكسون سيُحطم كينيدي في المناظرة لأنه أكبر منه سنا وأكثر خبرة في السياسة الدولية، ولكن النتيجة كانت مخيبة جدا لآمال الجمهوريين. اكتسح كينيدي المناظرة الرئاسية الأولى، تماما كما فعل دونالد ترامب مع الرئيس جو بايدن في 27 يونيو/حزيران الماضي، ولكن نيكسون لم يتقبل الهزيمة، ولم ينسحب من السباق، بل دخل مع خصمه في ثلاث جولات إضافية، الأولى في واشنطن يوم 7 أكتوبر، والثانية والثالثة في نيويورك في 13 و21 أكتوبر 1960. مع ذلك خسر نيكسون انتخابات تلك السنة، وقد أرجع ذلك إلى أدائه في المناظرة الأولى، وعلل هزيمته بضعف معرفته بعالم التصوير التلفزيوني. ارتدى بدلة رمادية فاتحة اللون لا تتناسب مع شاشات الأبيض والأسود، ورفض وضع طلاء المكياج على وجهه فظهر شاحبا أمام الكاميرا، أما جون كينيدي فكانت في وجهه تلك الكاريزما المعروفة. ونظرا لشدة تأثر الناس بالمناظرة، اتصلت والدة نيكسون بالاستوديو للاطمئنان على صحة ابنها بعد مشاهدته على شاشة التلفزيون.