كيف أنزلوا أرسطو عن عرشه؟
لكي نفهم الثورة العلمية لا بد أن نفهم فلسفة الطبيعة عند أرسطو
كيف أنزلوا أرسطو عن عرشه؟
من الضروري أن نستعيد بين حين وآخر قصة الثورة العلمية وكيف غيّرت وجه العالم، وأسقطت فلسفة الطبيعة الأرسطية التي سادت لألفي عام، وابتدأ معها عصر الحداثة، لعلنا نجد في تلك القصة مواعظ من عدة أنواع لا تخطئها العين.
لكي نفهم الثورة العلمية لا بد أن نفهم فلسفة الطبيعة عند أرسطو. كانت الأخيرة محاولة لفهم الطبيعة من خلال التأمل الفلسفي، وهي تختلف عن العلم الحديث في أن الأخير يعتمد على التجربة، بينما قامت هي على المشاهدة. أخذ أرسطو بفكرة العناصر الأربعة، عناصر متمايزة أثقلها التراب ثم يليه الماء، أما الهواء فهو خفيف والنار أشد خفة منه، وهكذا تشكلت الأرض وصارت في مركز الكون لأن عناصرها أثقل فانحازت إلى حيث المركز. وهكذا فالكواكب كلها تدور حول الأرض لأنها في المركز. هناك من يقول إن الأرض هي المركز وهذا عبارة مغلوطة لأن المركز جهة وليس شيئا.
بداية التغيير كانت مع كوبرنيكوس الذي أشعل فتيل الثورة العلمية من بولندا عندما وضع الشمس في مركز الكون وجعل الأرض تتحرك حول نفسها وحول الشمس، متحديا بذلك السلطة العلمية لبطليموس وأرسطو من ورائه، طارحا رؤيته كبديل جذري طارد.
لم يكن لبولندا ولا لكوبرنيكوس تأثير كبير في البداية، التأثير جاء عندما آمن العالِم غاليليو غاليلي بفكرة كوبرنيكوس، من إيطاليا قلب الكاثوليكية النابض، حيث أدخلت علوم أرسطو في المناهج الدراسية. ولهذا قست عليه السلطة.
غاليليو هو من وجّه الضربة القاضية لأرسطو عن قصدٍ وترصد وكان يعمل على محورين: هدم أرسطو، والتأسيس لمنهج العلم الجديد الذي اتضحت صورته
غاليليو هو من وجّه الضربة القاضية لأرسطو عن قصدٍ وترصد وكان يعمل على محورين: هدم أرسطو، والتأسيس لمنهج العلم الجديد الذي اتضحت صورته، ومعه ترسخت صورة العلم الدقيق بحيث أصبح يعني النظرية المختبرة التي تقوم على البحث في الأسباب والسعي لمعرفة دقيقة بها، واكتشاف القوانين الطبيعية التي تحكم الكون. وقد صنع مقرابا متطورا اكتشف به أربعة أقمار تدور حول المشتري فبطل بذلك القول بأن كل شيء يدور حول الأرض، واكتشف به النمش على وجه الشمس فبطل بذلك القول بكمال وألوهية الكواكب.
علماء آخرون مثل براهي وكبلر وغلبرت قدموا الكثير، لكن خاتمة الثورة العلمية ونهاية تشييد العلم الحديث جاءت مع إسحاق نيوتن باكتشافه لقانون الجاذبية الكوني، وبكتابه "المبادئ الرياضية للفلسفة الطبيعية" حيث قرر قوانين الحركة الثلاثة (قانون القصور الذاتي، وقانون تناسب القوة والسرعة، وقانون تساوي الفعل وردّ الفعل المضاد). تلك القوانين اعتبرت فيما بعد هدما لفكرة أرسطو عن المحرك الأول الذي لا يتحرك، وشكلت أساس الميكانيكا والفيزياء التقليديتين رغم أن نيوتن يؤمن بالمحرك الأول: الله.
ومن المبادئ التي قامت عليها فلسفة الطبيعة عند أرسطو أن الكون غير متجانس، وأن كل كوكب له نظامه الخاص، فأرسطو يرى أن للأرض قوانين خاصة بها وأن علم الفيزياء الأرسطي خاص فقط بكوكب الأرض ومحيطها، والأرض ومحيطها هي عالم "الكون والفساد". ما سوى الأرض لم يتعامل معه أرسطو بالقياس التجريبي، وإنما تعاطى معه من خلال التأمل العقلي النظري. وهكذا فالمادة في "عالم ما فوق فلك القمر" (عالم الأجرام السماوية) تختلف عن مادة الأرض، فما هي إذن؟ لقد تصوّر أن الجرم السماوي لا يتطرق إليه الكون والفساد أبدا. هذا المبدأ هدمه نيوتن تماما بقانون الجاذبية الذي ثبت سريانه على كل كتلة في الكون دون استثناء.
هنا تغيرت النظرة إلى العالم، لقد اهتز إيمان الناس بالغاية من وراء الظواهر الطبيعية، نظرا لما قرره نيوتن من آليتها وخضوعها للقوانين الصارمة الدائمة
هنا تغيرت النظرة إلى العالم، لقد اهتز إيمان الناس بالغاية من وراء الظواهر الطبيعية، نظرا لما قرره نيوتن من آليتها وخضوعها للقوانين الصارمة الدائمة والتي لا تنطبق على كوكب الأرض فقط، بل على الكون كله. لقد أصبح عالمنا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، عالما طبيعيا آليا ميكانيكيا لا يتحرك من أجل غاية. حدث هذا، مع أن نيوتن كان مؤمنا حقيقيا يقر بدليل النظام كحجة لإثبات وجود الله، إلا أنه حقق للمادية تقدما كبيرا نحو أهدافها، وكان السند العلمي لفلاسفة عصر التنوير. التنوير بدوره كانت له حسنات كبرى على البشرية لا تنسى، حيث قلّص نفوذ الأيديولوجيا الكنسية وشجع على التفكير العلمي، إلا أنه سجل موقفا عدائيا ضد الأديان كلها، ولم يؤمن إلا بالعقل وحده وبالتجريبية النيوتنية.
فكرة الكون الآلي عند نيوتن لا تنفي وجود الله من قريب ولا من بعيد، لكن المزاج العام في الدوائر العلمية والفلسفية الغربية مال في عصور التنوير إلى رفض التصور الديني للكون، بسبب أحقاد شاعت عندما اكتشف الناس زيف القساوسة. لن نبخس فلاسفة التنوير حقهم بما أنجزوه للبشرية من انتصارات على الخرافة ومحاربة استغلال الدين، إلا أن نزوعهم نحو التصور المادي الشامل جعل حياة الإنسان قفرا من كل روح. وعود كبيرة وعد بها العلماء بأن العلم سيحل كل المشكلات التي تطعن الإنسان في صميم وجوده، ويفسر كل المعضلات، لكنهم لم يحققوا من تلك الوعود شيئا يذكر.