الفاتيكان أمام مرحلة مفصلية... هل يستمر نهج البابا فرانسيس الإصلاحي؟

أحدث ثورة حقيقية داخل الكنيسة الكاثوليكية

أ ف ب
أ ف ب
تضاء الشموع أمام صورة البابا فرانسيس في كنيسة سانت كاترين الكاثوليكية في سانت بطرسبرغ في 21 أبريل 2025

الفاتيكان أمام مرحلة مفصلية... هل يستمر نهج البابا فرانسيس الإصلاحي؟

مثلما شكل انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية في 13 مارس/آذار 2013 مفاجأة لكثيرين خلفا للبابا الألماني الجنسية جوزيف راتزينغر الذي فاجأ الوسط الفاتيكاني بتقديم استقالته، ستشكل وفاة البابا فرانسيس الأرجنتيني المدعو خورخي ماريو بيرغوليو ردود فعل متضاربة لدى المسيحيين أتباع الكنيسة الكاثوليكية سواء للإعجاب والترحيب الذي لاقاه تواضعه والنهج الإصلاحي الذي أرساه، أو في التركيز على الطابع الإنساني للكنيسة واهتمامه بقضايا الفقراء، مقابل حملة التطهير التي أجراها داخل الفاتيكان الذي تسلل الفساد إلى داخله، وعصفت به الفضائح.

ولم يتأخر البابا فرانسيس عام 2019 في دفع الكاردينال رئيس أساقفة سانتياغو في تشيلي ريكاردو أزاتي إلى الاستقالة لدوره في فضيحة انتهاكات جنسية. فيما اعتبر آخرون أنه خارج عن الخط التقليدي الذي كان متبعا من البابوات الذين سبقوه لدرجة أن بعضهم رأى أنه يميل إلى الشيوعية لتواضعه وابتعاده عن كل مظاهر البذخ والترف. فقد قام في لحظة انتخابه بالتخلي عن اللباس الأحمر الأرجواني والحذاء الأحمر الذي كان يرتديه كل من سبقه، واستبدل الصليب المذهّب المعلق في رقبته بصليب خشبي، كما أنه انتقل إلى الإقامة في شقة متواضعة عند الراهبات قرب كنيسة القديس بطرس وبقي فيها حتى وفاته متخليا عن الإقامة في الجناح الكبير والفخم المخصص لأسلافه من البابوات.

كما أن تبنيه اسم القديس فرانسيس الذي اشتهر بتكريس حياته في خدمة الفقراء اعتبر مؤشرا واضحا على توجهه الرعوي واهتمامه بقضايا الشعوب والمهمشين، ثم لاحقا بالمهاجرين الذين خاض من أجلهم مؤخرا معركة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكان قد رفض استقبال نائبه جي دي فانس قبل أيام من وفاته، ثم استقبله قبل يوم واحد من وفاته في إطار المعايدة بعيد الفصح وحسب.

رويترز
البابا فرانسيس مع ضباط الشرطة الإيطالية خلال المقابلة العامة الأسبوعية في الفاتيكان، 27 نوفمبر 2019

ثم عاد وندد بالوضع "المأساوي" في قطاع غزة، وطالب قبل يوم واحد من وفاته بوقف إطلاق النار بعد أن كان قد اقترح نهاية عام 2024 التأكد من أن عملية "إبادة جماعية" ترتكب بحق الفلسطينيين.

كما أنه ذكر أيضا لبنان وشدد على أهمية العيش المشترك الذي يمتاز به. وكانت آخر رسالة للحبر الأعظم أنه "يجب أن لا يغيب عن بالنا مبدأ الإنسانية كأساس مفصلي في تصرفاتنا اليومية، وأن الكنيسة ليست فقط جدرانا بل حب".

الجدير ذكره أن كلمة بابا في اللاتينية واليونانية تعني الأب وتستخدم للدلالة على المحبة. البابا هو أسقف روما ورأس الكنيسة الكاثوليكية وخليفة القديس بطرس وله سلطة إدارية وتعليمية على الكنيسة عندما يعلن أنه يشرح العقيدة انطلاقا من كرسي بطرس.

لا شك أن حبرية البابا فرانسيس شكلت انعطافة مميزة في الكنيسة الكاثوليكية التي شهدت مراحل مختلفة خلال عمرها الطويل وقد تعاقب عليها مئتان وستة وستون حبرا أعظم، بدءا بالحروب الدينية التي استمرت عشرات السنين من الصراع على السلطة والهيمنة بين الفاتيكان وأنظمة الحكم في مختلف أنحاء أوروبا، وبينها حرب الثلاثين سنة التي اجتاحت أوروبا الوسطى (1618-1648).

وفي القرن العشرين شهدت الكنيسة انحيازا لبعض البابوات مع النظام الفاشي الذي فرضه بينيتو موسوليني في إيطاليا، وبعضهم حاول التعايش معه فيما حاول آخر التمرد على قرارته التعسفية، إلى أن انتخب البابا يوحنا الثالث والعشرين عام 1958 الذي نظم المجمع الفاتيكاني الثاني الذي شكل قفزة نوعية وتحولا هاما في حياة الكنيسة الكاثوليكية. إلا أن البابا يوحنا الثالث والعشرين توفي عام 1963 قبل أن يتمكن من إنهاء أعمال المجمع التي استكملها خلفه بولس السادس في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1965، والذي قام بأول زيارة لرأس الكنيسة الكاثوليكية إلى القدس في الرابع من يناير/كانون الثاني 1964. وقبل أكثر من ستين سنة حقق بابا روما المصالحة التاريخية بين الكاثوليك والأرثوذكس عبر القمة الاستثنائية التي عقدت بينه وبين البطريرك أثيناغوراس بطريرك القسطنطينية. وجرى اللقاء التاريخي في القدس الشرقية التي كانت لا تزال تحت السيادة الأردنية، في جلستين في الخامس والسادس من يناير عام 1964، لتتزامن هذه القمة مع أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني الذي اتخذ قرارات انفتاحية على الأرثوذكس الشرقيين وعلى كل الديانات الأخرى.

قام البابا يوحنا بولس الثاني بأول زيارة إلى سوريا عام 2001 لم يرافقه فيها البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير كما هو مفترض، لأنه رفض أن يعطي "صك براءة" للنظام الأسدي الذي كان جيشه يحتل لبنان

وشكل هذا اللقاء بداية المصالحة بين الكنائس الغربية (الكاثوليكية) والشرقية (الارثوذكسية)، بعد مرور أكثر من عشرة قرون على الانشقاق الكبير الذي حصل عام 1054. وقد أدى هذا المجمع أيضا إلى أن تفتح الكنيسة نوافذها على العالم الحديث، فتم تحديث الطقوس الدينية، والاعتراف بدور للعلمانيين في الكنيسة، وتم ادخال مفهموم الحرية الدينية والحرية للآخرين أيضا، كما أدى أيضا إلى إطلاق الحوار مع الديانات الأخرى. 

لم يتمكن بولس السادس من إكمال ما بدأه إذ لم تدم حبريته أكثر من خمس سنوات، وتوفي في أغسطس/آب 1978 ليخلفه أول بابا أوروبي شرقي من بولونيا التي كانت يومها تحت نفوذ الاتحاد السوفياتية التي بدأت فيما بعد بالانهيار عام 1989. وكان أول بابا غير إيطالي ينتخب منذ 455 سنة، ومكث نحو 27 سنة على رأس الكرسي الرسولي، وفي سابقة تم رسمه قديسا من قبل خلفه البابا بينيديكتوس السادس عشر. وقام يوحنا بولس الثاني الذي كان يدعى كارول فويتيلا بسفرات كثيرة وزار معظم دول العالم (129 بلدا)، وكانت أول زيارة يقوم بها بعد سنة فقط من انتخابه إلى الولايات المتحدة. وكان أول بابا يزور لبنان عام 1997 وأطلق مقولته الشهيرة "لبنان أكثر من دولة إنه رسالة" التي ما زال اللبنانيون يتغنون بها. وكذلك قام بأول زيارة إلى سوريا عام 2001 لم يرافقه فيها البطريرك الماروني الراحل نصرالله صفير كما هو مفترض لأنه رفض أن يعطي "صك براءة" للنظام الأسدي الذي كان جيشه يحتل لبنان. ثم كان أول بابا يزور مصر عام 2000 حيث التقى مع بابا الإسكندرية شنودة الثالث، كما كان أول بابا يزور مسجدا إسلاميا حينما دخل الجامع الأموي في دمشق، وصلّى أمام قبر يوحنا المعمدان، وألقى في الجامع عظة دعا فيها المسلمين والمسيحيين واليهود للعمل معًا. ثم زار القدس في شهر مارس 2000 وكان أول بابا يصلي على حائط البراق. وبعد ثلاث سنوات على انتخابه (13 مايو 1981) تعرض لمحاولة اغتيال حين أصيب بأربع طلقات نارية داخل باحة القديس بطرس على يد تركي يدعى محمد علي أغجا، وحكمت عليه إيطاليا بالسجن مدى الحياة، ثم أعفى عنه رئيس الجمهورية الإيطالية عام 2000 بطلب من البابا نفسه.

وقد شاء القدر أن يصبح كارول فويتيلا بابا للفاتيكان ويتخذ اسم يوحنا بولس الثاني على أثر الموت المفاجئ لسلفه البابا يوحنا بولس الأول الذي مكث في السدة البابوية مدة شهر فقط. وقد كان ضد "لاهوت التحرير" الذي تبناه رجال دين من أميركا اللاتينية في خمسينات وستينات القرن العشرين، وقد ركز في حبريته على بلاده بولونيا الشيوعية التي زارها أكثر من مرة، ولعب دورا بارزا في إسقاط النظام الشيوعي فيها وفي عدد من دول أوروبا الشرقية، وكان له دور هام في دعم حركة "ليش فاليزا"، عامل  الكهرباء البولوني الذي كان يعمل في حوض لبناء السفن، والذي أسس نقابة "سوليدارنوش" (تضامن) التي حققت شعبية واسعة، وتمكن بعدها من أن يصبح رئيسا بعد انتخابات حرة تخاض لأول مرة عام 1990، وكذلك ازدادت شعبية البابا ليس فقط في أوساط الدول المسيحية. غير أن فويتيلا انتقد من قبل بعض الليبراليين لتمسّكه بتعاليم الكنيسة ضد وسائل منع الحمل والإجهاض والموت الرحيم ورسم النساء كهنة في الكنيسة. وهي خطوة اتخذها فيما بعد فرانسيس.

أ ف ب
ينزل البابا يوحنا بولس الثاني من سيارته البابوية وسط حشد من المهنئين في 7 مايو 2001 في دمشق أثناء زيارته لكنيسة القديس بولس التذكارية

وهذا يعني أن يوحنا بولس الثاني كان محافظا من الناحية الاجتماعية بعكس البابا فرانسيس الذي خلف البابا الألماني الذي كان من المتشددين في مجالي العقيدة والإيمان، حيث كان رئيسا لمجمعهما الفاتيكاني قبل انتخابه، واتهم بالتعصب بعد المحاضرة التي القاها في ألمانيا يوم 12 سبتمبر/أيلول 2006 حين تطرق لموضوع "آيات القتال" في القرآن واستشهد بنص تاريخي لحوار بين الإمبراطور البيزنطي وأحد المفكرين الفارسيين حول دور النبي محمد، يقول فيه الإمبراطور إن النبي "أمر نشر الدين بالسيف". وعلى أثرها قامت مجموعة من المظاهرات في عددٍ من الدول ذات الغالبية الإسلامية وطالبت البابا بالاعتذار. وبعد أسبوعين التقى البابا سبعة عشر سفيرًا من سفراء الدول الإسلامية المعتمدين لدى الفاتيكان وألقى كلمة أبدى فيها أسفه من تداعيات الموقف، وأكّد على الجوانب المشتركة بين المسيحية والإسلام.

أحدث البابا فرانسيس ثورة حقيقية سواء في الإصلاح داخل الكنيسة أو في نشر نمط إنساني وأخلاقي في التعاطي بين البشر والدول والأديان

أما البابا فرانسيس فقد بدأ حبريته بالتطرق للمسائل التي تواكب التطور وتهم جيل الشباب، بدءا من رسالة بابوية وجهها عام 2015 "الحمد لك" (laudato si) التي تتناول أزمة المناخ وتدافع عن البيئة، وتضمنت اعتذاراته التاريخية التي وجهها للناجين من الاعتداءات الجنسية التي تعرضوا لها من قبل رجال الدين.

تعاطى البابا فرانسيس مع الكنيسة منذ بداية بابويته وفقا لرؤيته "كنيسة فقيرة للفقراء" وبصفته مدافعا لا يكل عن المهاجرين (علما أنه من والدين مهاجرين من إيطاليا إلى الأرجنتين)، والكثير من الأشخاص المهمشين. وحذر في أول كلمات له من أن تصبح الكنيسة معرضة لخطر التحول إلى "منظمة غير حكومية مثيرة للشفقة".

وخلافا عن العادة فقد لجأ البابا بعد انتخابه إلى خطوة ديمقراطية بتعيين مجلس من ثمانية كرادلة لتقديم المشورة له بشأن سياسة الكنيسة. وخلال أول مؤتمر صحافي عقده في أول سنة من بابويته تناول بجرأة غير مسبوقة قضية المثليين، وقال فيه: "إذا كان الشخص مثليا ويسعى إلى الله ولديه إرادة طيبة فمن أنا لأحكم عليه". ولم يلبث أن يفاجئ فرانسيس كلا من الليبراليين والتقليديين عندما انتقد الكنيسة في مقابلة أجرتها معه في سبتمبر 2013 مجلة يسوعية إيطالية لكونها "مهووسة" بقضايا مثل المثلية الجنسية والإجهاض وتنظيم النسل، وهذا ما يؤشر إلى أننا بصدد تحول كبير داخل الكنيسة في المفاهيم والممارسة الكاثوليكية.

إلى ذلك كله أبدى البابا فرانسيس اهتماما بالبلاد العربية وانفتاحا استثنائيا على الإسلام والمسلمين لم يحصل من قبل، وقد سبق ذلك لقاء جمع خادم الحرمين الشرفين الملك الراحل عبدالله مع البابا بينيديكتوس السادس عشر، في الفاتيكان عام 2007، بهدف تطوير العلاقات وبدء تمثيل دبلوماسي بين الفاتيكان والسعودية، وذلك في أول لقاء تاريخي بين الملك السعودي والحبر الأعظم.

أ.ب
البابا فرانسيس يصلي عند الجدار الفاصل الإسرائيلي في طريقه إلى قداس في ساحة المهد بجوار كنيسة المهد في مدينة بيت لحم بالضفة الغربية، 25 مايو 2014

وفي عهد فرانسيس تطورت هذه العلاقة الثنائية، وزار رئيس المجلس البابوي للحوار بين الأديان الكاردينال جان لوي توران، خلال شهر أبريل/نيسان 2018، السعودية حيث عقد سلسلة لقاءات وأقام أول قداس إلهي على أراضي المملكة في كنيسة السفارة الفرنسية. وهي زيارة مهدت لها أول زيارة يقوم بها بطريرك ماروني إلى السعودية إذ زار البطريرك بشارة الراعي المملكة في نوفمبر/تشرين الثاني 2017 حيث التقى خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز. غير أن أهم خطوة قام بها البابا فرانسيس هي اللقاء الذي حصل في 4 فبراير/شباط 2019 مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب، ووقّع الاثنان "وثيقة الأخوة الإنسانية" من أجل السلام العالمي والعيش المشترك.

وأعلنت الوثيقة باسم "الفقراء والبؤساء والمحرومين والمهمشين والمهجرين، وباسم الحرية… يعلن الأزهر الشريف والكنيسة الكاثوليكية تبني ثقافة الحوار دربا والتعاون المشترك سبيلا والتعارف المتبادل نهجا". كما قام الحبر الأعظم بأول زيارة بابوية إلى العراق في 5 مارس/آذار 2021 كانت فعلا مميزة، إذ التقى خلالها العلامة الشيعي علي السيستاني في مقره المتواضع في بغداد وجال خلال خمسة أيام والتقى مسؤولين ورجال دين وشارك في صلاة إسلامية على "روح الشهداء". 

لقد أحدث البابا فرانسيس ثورة حقيقية سواء في الإصلاح داخل الكنيسة أو في نشر نمط إنساني وأخلاقي في التعاطي بين البشر والدول والأديان. إنه في بضع كلمات أول بابا يسوعي، وأول بابا من أميركا اللاتينية، وأول من اختار اسم فرانسيس، وأول من انتخب وسلفه لا يزال على قيد الحياة، وأول من فرض نمطا من التواضع داخل أروقة الفاتيكان، وأول من زار أراضي لم يطأها حبر أعظم من قبل- من العراق إلى كورسيكا- وأول من وقّع إعلان "وثيقة الأخوّة" مع إحدى أكبر السلطات الإسلامية.

وكان أيضا أول بابا يحيط نفسه بمجلس كرادلة لترسيخ نمط من الحكم الجماعي في الكنيسة، وأول من أسند أدوارا في المسؤولية للنساء والعلمانيين، وأول من ألغى عقوبة الإعدام من التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية. فهل سيستمر هذا النهج مع خلفه البابا الجديد؟

font change