مثلما شكل انتخابه على رأس الكنيسة الكاثوليكية في 13 مارس/آذار 2013 مفاجأة لكثيرين خلفا للبابا الألماني الجنسية جوزيف راتزينغر الذي فاجأ الوسط الفاتيكاني بتقديم استقالته، ستشكل وفاة البابا فرانسيس الأرجنتيني المدعو خورخي ماريو بيرغوليو ردود فعل متضاربة لدى المسيحيين أتباع الكنيسة الكاثوليكية سواء للإعجاب والترحيب الذي لاقاه تواضعه والنهج الإصلاحي الذي أرساه، أو في التركيز على الطابع الإنساني للكنيسة واهتمامه بقضايا الفقراء، مقابل حملة التطهير التي أجراها داخل الفاتيكان الذي تسلل الفساد إلى داخله، وعصفت به الفضائح.
ولم يتأخر البابا فرانسيس عام 2019 في دفع الكاردينال رئيس أساقفة سانتياغو في تشيلي ريكاردو أزاتي إلى الاستقالة لدوره في فضيحة انتهاكات جنسية. فيما اعتبر آخرون أنه خارج عن الخط التقليدي الذي كان متبعا من البابوات الذين سبقوه لدرجة أن بعضهم رأى أنه يميل إلى الشيوعية لتواضعه وابتعاده عن كل مظاهر البذخ والترف. فقد قام في لحظة انتخابه بالتخلي عن اللباس الأحمر الأرجواني والحذاء الأحمر الذي كان يرتديه كل من سبقه، واستبدل الصليب المذهّب المعلق في رقبته بصليب خشبي، كما أنه انتقل إلى الإقامة في شقة متواضعة عند الراهبات قرب كنيسة القديس بطرس وبقي فيها حتى وفاته متخليا عن الإقامة في الجناح الكبير والفخم المخصص لأسلافه من البابوات.
كما أن تبنيه اسم القديس فرانسيس الذي اشتهر بتكريس حياته في خدمة الفقراء اعتبر مؤشرا واضحا على توجهه الرعوي واهتمامه بقضايا الشعوب والمهمشين، ثم لاحقا بالمهاجرين الذين خاض من أجلهم مؤخرا معركة مع الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وكان قد رفض استقبال نائبه جي دي فانس قبل أيام من وفاته، ثم استقبله قبل يوم واحد من وفاته في إطار المعايدة بعيد الفصح وحسب.
ثم عاد وندد بالوضع "المأساوي" في قطاع غزة، وطالب قبل يوم واحد من وفاته بوقف إطلاق النار بعد أن كان قد اقترح نهاية عام 2024 التأكد من أن عملية "إبادة جماعية" ترتكب بحق الفلسطينيين.
كما أنه ذكر أيضا لبنان وشدد على أهمية العيش المشترك الذي يمتاز به. وكانت آخر رسالة للحبر الأعظم أنه "يجب أن لا يغيب عن بالنا مبدأ الإنسانية كأساس مفصلي في تصرفاتنا اليومية، وأن الكنيسة ليست فقط جدرانا بل حب".
الجدير ذكره أن كلمة بابا في اللاتينية واليونانية تعني الأب وتستخدم للدلالة على المحبة. البابا هو أسقف روما ورأس الكنيسة الكاثوليكية وخليفة القديس بطرس وله سلطة إدارية وتعليمية على الكنيسة عندما يعلن أنه يشرح العقيدة انطلاقا من كرسي بطرس.
لا شك أن حبرية البابا فرانسيس شكلت انعطافة مميزة في الكنيسة الكاثوليكية التي شهدت مراحل مختلفة خلال عمرها الطويل وقد تعاقب عليها مئتان وستة وستون حبرا أعظم، بدءا بالحروب الدينية التي استمرت عشرات السنين من الصراع على السلطة والهيمنة بين الفاتيكان وأنظمة الحكم في مختلف أنحاء أوروبا، وبينها حرب الثلاثين سنة التي اجتاحت أوروبا الوسطى (1618-1648).
وفي القرن العشرين شهدت الكنيسة انحيازا لبعض البابوات مع النظام الفاشي الذي فرضه بينيتو موسوليني في إيطاليا، وبعضهم حاول التعايش معه فيما حاول آخر التمرد على قرارته التعسفية، إلى أن انتخب البابا يوحنا الثالث والعشرين عام 1958 الذي نظم المجمع الفاتيكاني الثاني الذي شكل قفزة نوعية وتحولا هاما في حياة الكنيسة الكاثوليكية. إلا أن البابا يوحنا الثالث والعشرين توفي عام 1963 قبل أن يتمكن من إنهاء أعمال المجمع التي استكملها خلفه بولس السادس في شهر أكتوبر/تشرين الأول 1965، والذي قام بأول زيارة لرأس الكنيسة الكاثوليكية إلى القدس في الرابع من يناير/كانون الثاني 1964. وقبل أكثر من ستين سنة حقق بابا روما المصالحة التاريخية بين الكاثوليك والأرثوذكس عبر القمة الاستثنائية التي عقدت بينه وبين البطريرك أثيناغوراس بطريرك القسطنطينية. وجرى اللقاء التاريخي في القدس الشرقية التي كانت لا تزال تحت السيادة الأردنية، في جلستين في الخامس والسادس من يناير عام 1964، لتتزامن هذه القمة مع أعمال المجمع الفاتيكاني الثاني الذي اتخذ قرارات انفتاحية على الأرثوذكس الشرقيين وعلى كل الديانات الأخرى.