إشعارات تأسر الملايين حول العالم

بين الجذب والتشتت...

شاتر ستوك
شاتر ستوك
مراهقة قلقة تجلس الى مكتب في غرفة نوم ناظرةً إلى هاتف محمول.

إشعارات تأسر الملايين حول العالم

عندما تفتح عينيك في الصباح، وأنت لا تزال نصف نائم، تمتد يدك تلقائيًا نحو طاولة السرير الجانبية بحثًا عن هاتفك المحمول. في تلك اللحظة، على الرغم من أن عقلك لا يزال غارقًا في الضباب، تجد يدك طريقها إلى الهاتف بمهارة، وكأنها ألفت هذه الحركة اليومية. وبمجرد أن تمسك بالهاتف، تبدأ بتصفح الإشعارات والرسائل التي تنتظرك، ليبدأ يومك فعليًا قبل أن تستيقظ بشكل كامل، محاطًا بمزيج من المعلومات التي تنهال عليك.

يتكرر هذا المشهد لدى الملايين حول العالم؛ فقد أصبحت الهواتف الذكية والإشعارات جزءًا لا يتجزأ من روتينهم الصباحي. ومع تصفح الإشعارات ومتابعة المحتوى على وسائل التواصل الاجتماعي، يبدأ اليوم بتدفق مستمر من المعلومات التي تستهلك الذهن وتشتت الانتباه. تؤدي هذه الإشعارات المتواصلة والمحتوى الذي يبدو بلا نهاية على تلك المنصات، إلى آثار سلبية واضحة على التركيز والإنتاجية، سواء في العمل أو الدراسة، حيث تتراجع القدرة على التركيز والانضباط الشخصي، مما ينعكس سلبًا على الأداء اليومي الفعّال.

أصبحت الإشعارات المستمرة من أبرز التحديات التي تواجه مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، حيث إن كل إشعار جديد يخلق شعورًا ملحًا بضرورة التحقق منه فوراً. يتعرض المستخدمون إلى موجات متتالية من الإشعارات، سواء كانت من تطبيقات الدردشة أو تحديثات الشبكات الاجتماعية أو حتى إشعارات من تطبيقات الأخبار، وهذا الكم المستمر من الإشعارات يؤدي إلى تشتت الانتباه، خاصة عند التركيز على مهام تتطلب جهداً ذهنياً، كالدراسة أو العمل.

وتشكل المقاطعات المتكررة التي تفرضها الإشعارات مصدرا مستمرا للتشتيت؛ فعندما ينخرط الشخص في عمل يتطلب التركيز، يؤدي كل إشعار جديد إلى كسر هذا التركيز. قد تبدو تلك اللحظات التي يتم فيها التحقق من الإشعارات قصيرة وغير مؤثرة، لكنها في الواقع تتراكم لتؤدي إلى فقدان التركيز المستمر. ولدى العودة إلى العمل بعد التشتت، يحتاج الفرد إلى وقت وجهد لاستعادة مستوى التركيز نفسه، وهذا "الانتقال العقلي" يعوق تقدم العمل ويبطئ الإنتاجية.

شاتر ستوك
هاتف ذكي يعرض صورة لتطبيقات التواصل الاجتماعي.

كما تساهم الإشعارات المستمرة أيضًا في خلق حالة من القلق والإجهاد النفسي. ينتج هذا القلق من الشعور بضرورة الاطلاع على كل ما هو جديد على الفور. وقد يترسخ لدى الفرد خوف من أن يفوته شيء مهم، وهذا ما يُعرف بظاهرة "الخوف من فقدان الفرصة" التي تجعل المستخدمين أسرى لإشعارات هواتفهم. بالتالي، تخلق هذه الحالة النفسية ضغطًا إضافيًا، يزيد مستويات التوتر ويؤثر على صحة المستخدم النفسية والجسدية على المدى الطويل.

المنصات مصممة لتقديم محتوى مستمر يجذب الانتباه من خلال الإثارة اللحظية. هذا التصميم يتسبب في إدمان مستخدميه ويؤثر سلبًا في قدرتهم على التركيز لفترات طويلة

سينان أرال، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ومؤلف كتاب "آلة الضجيج"

كما يشكل المحتوى غير المحدود والمستمر تحديًا كبيرًا. ففي أي لحظة، قد يجد المستخدم نفسه يتنقل بلا وعي بين المنشورات، الفيديوهات، والتعليقات. هذه الطبيعة اللانهائية للمحتوى تجعل من الصعب على الفرد تعيين وقت محدد للتوقف. فكل منشور أو فيديو جديد يجلب معه إغراءً يدفع الى متابعته، مما يجعل من الصعب الخروج من دائرة التصفح المتواصل. ومع مرور الوقت، يدرك المستخدم أنه أمضى ساعات طويلة دون تحقيق أي إنجاز يُذكر، مما يساهم في زيادة الشعور بالإحباط والتشتت.

الإثارة اللحظية

أحد الأسباب الرئيسة التي تجعل وسائل التواصل الاجتماعي جذابة للغاية، هو تصميمها المدروس لتعزيز الشعور بالإثارة اللحظية بشكل مستمر. فالمنصات مصممة بشكل يحث المستخدمين على استهلاك المزيد من المحتوى دون الشعور بمرور الوقت، وذلك بفضل الخوارزميات التي تقوم بعرض محتوى مخصص بعناية بناءً على تفضيلاتهم وسلوكياتهم السابقة.

لا يشجع هذا التصميم فقط على متابعة المزيد من المحتوى، بل يخلق تجربة مخصصة ومغرية للغاية تجعل المستخدمين يشعرون بأنهم غير قادرين على الابتعاد. ومع مرور الوقت، يؤدي هذا النمط المتكرر إلى إضعاف قدرة الشخص على التركيز لفترات طويلة، حيث يعتاد العقل على التشتت السريع والمكافآت اللحظية. في نهاية المطاف، يجد الشخص نفسه أقل قدرة على التركيز على المهام التي تتطلب وقتًا وجهدًا متواصلين، مما يؤثر سلبًا على أدائه وإنتاجيته.

هذا الكلام يؤكده الدكتور سينان أرال، الأستاذ في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا  ومؤلف كتاب "آلة الضجيج" The Hype Machine حيث يقول: "إن هذه المنصات مصممة لتقديم محتوى مستمر يجذب الانتباه من خلال الإثارة اللحظية. هذا التصميم يتسبب في إدمان مستخدميه ويؤثر سلبًا في قدرتهم على التركيز لفترات طويلة."

يقدم كتاب "آلة الضجيج" نظرة عميقة إلى التأثيرات العميقة لوسائل التواصل الاجتماعي في حياة الأفراد والمجتمعات. إذ يصف كيف أصبحت هذه المنصات أدوات هائلة تؤثر يف قراراتنا اليومية وصحتنا العامة وحياتنا الاقتصادية والسياسية؛ وقد حصل الكتاب على تقييمات إيجابية، ووصف بأنه دقيق في التنبؤ بالعديد من التوجهات التي تتجسد اليوم في مشهدنا الرقمي.

المقاطعات المستمرة قللت بشكل كبير قدرتنا على التركيز والانتباه، سواء في المدرسة أو العمل أو حتى مع العائلة

لاري روزن، الأستاذ الفخري والرئيس السابق لقسم علم النفس في جامعة ولاية كاليفورنيا

يركز أرال في كتابه على نقاط حساسة من تأثير وسائل التواصل الاجتماعي، إذ يسلط الضوء على دور وسائل التواصل الاجتماعي في الانتخابات، موضحاً كيف يمكن استخدام هذه الأدوات لنشر الأخبار الكاذبة وإحداث الاستقطاب، ومشددًا على أهمية الاعتراف بتأثيرها الهائل على الديمقراطية وصنع القرار السياسي.

كما يناقش أيضًا كيفية استغلال شبكات التواصل الاجتماعي من قبل الشركات والعلامات التجارية لاستهداف المستخدمين وتغيير قراراتهم الشرائية، مما يعزز النمو الاقتصادي لهذه الشركات على حساب سلوكيات المستهلكين وقراراتهم.

شاتر ستوك
صورة تعبيرية لامرأة تبرز من شاشة الكومبيوتر المحمول وتحاول الوصول إلى هاتف محمول في يد فتاة.

والأهم؛ يعرض الكتاب كيف أن الاعتماد المتزايد على وسائل التواصل الاجتماعي قد أضر بالصحة النفسية، حيث تسبب الاستخدام المفرط لهذه المنصات في ظواهر مثل القلق والاكتئاب، خاصةً لدى الشباب.

عند التأمل في هذا الأمر، نجد مثالًا واضحًا على المحتوى المصمم لجذب الانتباه، من خلال إثارة لحظية في الفيديوهات المنتشرة على منصات مثل "إنستغرام" و"تيك توك"، كفيديوهات "غسيل السجاد" أو "تكسير الزجاجات على السلم". تقدم هذه الفيديوهات تجربة بصرية مفعمة بالإثارة، حيث تجذب المشاهدين عبر الإشباع الحسي الناتج من مشاهد التنظيف أو التكسير، مما يزيد تعلق المستخدمين بتلك المنصات.

فكم مرة وجدت نفسك وقد وقعت في هذا الفخ؟ تنظر إلى الساعة فتكتشف أن الليل قد تلاشى تقريبًا، والفجر بات وشيكا، بعدما كنت قد قررت أن تنام مبكرًا استعدادًا ليوم مليء بالمهام مثل العمل أو الدراسة.

لكن بدلاً من التزام خطتك وضبط نفسك على التوقف، تجد أنك أمضيت ساعات طويلة في التصفح دون أن تشعر، تتنقل بين الفيديوهات والمنشورات، مما يعكس صعوبة السيطرة على الرغبة في متابعة المحتوى.

هذه اللحظات تكشف بوضوح كيف يمكن أن يؤدي الانغماس في وسائل التواصل إلى إضعاف الانضباط الشخصي، حيث يصبح من الصعب التمسك بالقرارات اليومية البسيطة مثل النوم في وقت محدد أو التزام خطة اليوم التالي.

التأثيرات النفسية والعاطفية

يمكن للتأثيرات النفسية والعاطفية الناتجة من هذا التشتت أن تكون ذات أهمية كبيرة، حيث يعاني الكثير من الأشخاص من القلق والشعور بالضغوط نتيجة لتدفق المعلومات المستمر. يجعل التدفق المستمر من الصعب الوصول إلى حالة من الهدوء العقلي، إذ بدلاً من الاستمتاع بلحظات التأمل أو الراحة، يجد الفرد نفسه عالقًا في دوامة من المحتوى الذي لا ينتهي.

القراءة الرقمية السريعة قد تؤدي إلى فقدان القدرة على القراءة العميقة، وهي العملية التي تتطلب تركيزًا أكبر وتأملًا في النصوص

ماريان وولف، المتخصصة في علم الأعصاب التطوري بجامعة كاليفورنيا

مع الوقت، يتحول هذا القلق المستمر إلى عبء على الصحة النفسية، مما يجعل الشعور بالراحة أو الاسترخاء أكثر صعوبة. وهكذا، بدلاً من تحقيق توازن ذهني، يؤدي الانغماس في هذا المحتوى إلى مزيد من التوتر والإرهاق النفسي.

في هذا السياق يقول الدكتور لاري روزن، الأستاذ الفخري والرئيس السابق لقسم علم النفس في جامعة ولاية كاليفورنيا وخبير علم نفس التكنولوجيا في تصريح خاص لـ"المجلة": إذا نظرت إلى المدة التي يمضيها الشخص في استخدام الأجهزة الرقمية المزودة شاشات، مثل الهواتف الذكية، الأجهزة اللوحية، أجهزة الكومبيوتر، أو ما يعرف بوقت الشاشة لأي أسبوع معين، فستجد أن معظم الشباب وحتى جيل "إكس" الذي ولد بين منتصف الستينات ومنتصف الثمانينات، يمضون جزءًا كبيرًا من يومهم في فتح هواتفهم غالبًا للتحقق من نوع ما من وسائل التواصل الاجتماعي. يتلقون إشعارات مستمرة من الهاتف ومن أدمغتهم تخبرهم بإلقاء نظرة سريعة. هذه المقاطعات المستمرة قللت بشكل كبير قدرتنا على التركيز والانتباه، سواء في المدرسة أو العمل أو حتى مع العائلة. على مدار العقد الماضي، انخفضت قدرتنا على الانتباه بشكل ملحوظ، مما أثر في ذاكرتنا وصحتنا النفسية.

شاتر ستوك
سيدة تجلس الى طاولة مكتبها، متعبة ومجهدة.

في السياق نفسه، تشير أيضاً الدكتورة ماريان وولف، المتخصصة في علم الأعصاب التطوري بجامعة كاليفورنيا، في تصريح خاص لـ"لمجلة" إلى كتابها Reader, Come Home: The Reading Brain in a Digital World  حيث تتناول فيه تأثير القراءة الرقمية على القدرات العقلية، خاصة في ما يتعلق بالتفكير النقدي، التعاطف، والاستيعاب العميق. تشرح وولف كيف أن القراءة الرقمية السريعة قد تؤدي إلى فقدان القدرة على القراءة العميقة، وهي العملية التي تتطلب تركيزًا أكبر وتأملًا في النصوص.

آثار التشتت الرقمي على الصحة الجسدية

في حين نركز كثيراً على التأثيرات النفسية والاجتماعية للإدمان الرقمي، غالباً ما نغفل عن آثاره الجسدية الملموسة. فساعات التحديق الطويلة في شاشات هواتفنا، غالباً في وضعيات جسدية غير صحية، تترك بصماتها على أجسادنا بشكل واضح. يعاني الكثيرون من متلازمة الرقبة النصية  Text Neck Syndromeوهو مصطلح طبي حديث يصف الألم المزمن في الرقبة والكتفين نتيجة الانحناء المستمر للنظر إلى الهاتف.

كما أن إجهاد العين الرقمي أصبح شكوى شائعة، حيث يعاني المستخدمون من جفاف العين، وضبابية الرؤية، والصداع المتكرر. وللمفارقة، فإن هؤلاء الذين يشكون من هذه الأعراض، غالباً ما يلجؤون إلى هواتفهم للبحث عن حلول لها، ليجدوا أنفسهم عالقين في حلقة مفرغة من التصفح المستمر الذي يزيد تفاقم مشاكلهم الصحية. ولعل الطريف في الأمر أن بعضهم يكتشف أن علاج آلام الرقبة الناتجة من استخدام الهاتف يكمن في مشاهدة فيديوهات تمارين الرقبة... على الهاتف نفسه!

في خضم هذا التشتت المستمر والانغماس في العالم الرقمي، بدأنا نلاحظ تغيراً ملحوظاً في طبيعة تفاعلاتنا الاجتماعية المباشرة. فعندما نجتمع مع العائلة أو الأصدقاء، نجد أنفسنا في كثير من الأحيان منشغلين بهواتفنا، نتصفح ونتفاعل مع محتوى افتراضي بينما نتجاهل - دون قصد - الأشخاص الحقيقيين الجالسين أمامنا. هذه الظاهرة، التي أصبحت تُعرف باسم "الحضور الغائب"، تؤثر بشكل عميق في جودة علاقاتنا الشخصية. فبدلاً من المشاركة في محادثات عميقة ومجدية، نكتفي بتبادل إشارات سطحية للاهتمام، بينما يظل جزء كبير من انتباهنا مشدوداً إلى شاشاتنا. هذا النمط من السلوك لا يؤدي فقط إلى إضعاف الروابط الاجتماعية، بل يحرمنا أيضاً من تجارب إنسانية غنية وفرص حقيقية للتواصل العاطفي العميق. للمفارقة، يبدو أن المنقذ الوحيد لهذه اللحظات الاجتماعية المسروقة هو ذلك الإشعار المزعج الذي يخبر أحدنا بأن بطارية هاتفه أوشكت على النفاد، فيضطر -مرغماً- للانضمام إلى عالمنا الواقعي، ليكتشف فجأة أن هناك حياة كاملة تنبض من حوله، وأن الدردشة الحقيقية قد تكون أكثر إمتاعاً من تلك التي نمضيها مع شاشاتنا الصغيرة!

لحل هذه المشكلة أو على الأقل لتخفيف آثارها، يحتاج الأفراد إلى تبني استراتيجيات واضحة ومحددة للتحكم في استخدامهم لوسائل التواصل الاجتماعي. من بين هذه الاستراتيجيات يمكن أن يكون تحديد أوقات معينة لاستخدام الهواتف المحمولة، أو الاعتماد على تطبيقات تساعد في تقليل وقت الشاشة، إضافة إلى تبني تقنيات مثل التأمل والاسترخاء لتعزيز التركيز والانضباط الذاتي. إلى جانب ذلك، يصبح من الضروري زيادة الوعي بتأثير هذه العادات في الصحة النفسية والجسدية، وتشجيع الناس على تحقيق توازن صحي بين استخدام التكنولوجيا والأنشطة الأخرى في حياتهم اليومية.

من الواضح أن وسائل التواصل الاجتماعي، رغم الفوائد التي تقدمها في تسهيل التواصل ونقل المعلومات، تشكل تحديًا كبيرًا في ما يخص الحفاظ على التركيز والإنتاجية. فالإشعارات المستمرة والمحتوى الذي لا ينتهي تجعل من الصعب التحكم في الوقت والحفاظ على تركيز عميق. مع ذلك، يمكن استعادة السيطرة من خلال تبني استراتيجيات واعية للتحكم في استخدام هذه المنصات. وهنا يأتي السؤال عزيزي القارئ: هل كان يومك أفضل عندما لم يكن يبدأ بالتحقق من الإشعارات؟

font change