صمت البدايات لرامبو

صمت البدايات لرامبو

استمع إلى المقال دقيقة

النهج الشعري الذي عمل عليه رامبو وأذهل العالم، لم يأت من فراغ، لا ننكر أنه عاش في العصر الذهبي للشعر الفرنسي (العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر)، أي العصر الذي شهد تطورا سريعا وجذريا في غضون سنوات قليلة، كما شهد على ازدهار الكثير من المدارس الشعرية في فرنسا وبلجيكا، علاوة على ذلك بروز الدوائر الأدبية في المجتمع، ولم يكن كل ذلك، سوى انعكاس للتغييرات الفكرية العاطفية، التي أثرت في المجتمع الفرنسي، وهو الخارج من هيكله التقليدي، حينها أخذت التيارات الفكرية تتجدد، وتظهر شخصيات شجاعة وقوية، تملك مواهب مبتكرة وتعبر عن نفسها، منهم آرثر رامبو، الذي بدأ في كتابة الشعر، وهو في عمر الخامسة عشر، أي وهو تلميذ يكتب القصائد مقلدا الشعراء الكبار في عصره، حتى اختفى فجأة من الساحة الأدبية، أي بعد أربع سنوات من الكتابة، تاركا لأصدقائه ومعارفه أعمالا شعرية لا مثيل لها.

الصمت الذي التزم به، صمتٌ عميق جعل الجميع يبحث عنه، ويرغب في ظهوره من جديد، واصفين إياه بوميض نيزكي، من شأنه أن يؤدي سريعا إلى ظهور أسطورة مراهق لامع ومتمرد، بعد أن ألهم بعض النقاد خلال السنوات الأربع، بأعمال نقدية عنه، لطبيعة شعره الفريد من نوعه، ظل رامبو غائبا لفترة طويلة، وبمعنى آخر مختبئا خلف كتابات النقاد في عدة أقنعة، وبالتناوب وفي وقت واحد، واصفينه بالرائي والمحتال والطفل والقديس... ألبسه النقاد والمعجبون والمتحمسون له أقنعة كثيرة، والبعض كان يصنفه تصنيفات تقلل من نطاق شعره الواسع.

كانت له حياة التجوال في الريف، والمشي والتأمل لساعات طوال يوميا، خاصة في الإجازات الدراسية، كل ذلك من أجل تحرير شعره من قيود الأفكار الموروثة التي تعوق فضائل الشعر الأساسية، سواء من الحرية أو الحركة

تم البحث عن آرثر رامبو وهو في صمته، من خلال تاريخه المدرسي القريب في المدرسة المتوسطة، فلم يكن سوى طالب واعد، وحسب المدرسة كان يمتلك فضولا لا يشبع، لدرجة أنه كان يغيب عن الفصول الدراسية في كثير من الأحيان، للذهاب إلى المكتبة، بينما خارج المدرسة، فكان يسرق الكتب التي لم يتمكن من شرائها في المكتبات... كما شجعه أستاذ البلاغة الشاب الذي اكتشف الصفة الأدبية المبكرة في تلميذه، فكان أستاذ عصره، لأنه جعل رامبو حريصا على القوافي والنحو.. وكان ذلك واضحا في شعره. وأمام هذه المراهقة القرائية والدراسية، كانت له حياة التجوال في الريف، والمشي والتأمل لساعات طوال يوميا، خاصة في الإجازات الدراسية، كل ذلك من أجل تحرير شعره من قيود الأفكار الموروثة، التي تعوق فضائل الشعر الأساسية، سواء من الحرية والحركة... كل تلك الأمور سمحت له باكتساب ثقافة شعرية كلاسيكية مهمة وبسرعة، أيقظت رغبته في كتابة القصيدة الجديدة.

في ذلك الغياب كان رامبو يحرر نفسه من القيود، التي كانت تخنق صوته الشعري، فأخذ يليّن شعره، وبدأ في عدم تطبيق قواعد القافية، حتى إنه لم يقلد بودلير، الذي لم يتبع القافية أيضا، فاكتسب في عزلته إتقان كتابة الشعر الحر بجرس فريد، بقوة وأصالة لم يصل إليها من قبل، فقرر التحرر من كل شيء، كطريق في الحياة، والتحرر التدريجي من كل النماذج، للكشف عن شعر جديد، يزدهر بشكل كامل، والنتيجة أن أصبح رامبو قادرا على التحدث، وعلى قدم المساواة مع كبار الشعراء في باريس، ومع المجتمع الذي كان يهزأ من هندامه وأسلوبه الريفي في الطعام والكلام..

أصر على سلوكه البدائي، ولم يعد يبحث عن الجمال المصطنع في ترتيب المفردات، ولا التعبير اللطيف وتزيين القصيدة، أو تبيان الغرور في حديثه. كان فقط يعيش التجربة المعاشة للواقع بحثا عن المكان الحقيقي واللحظة الحقيقية منقبا عن هويته، راغبا في تأكيدها بقوة ثقافته... فاجتاح باريس شعرا، والعالم.

font change