الرواية الخليجية في أوروبا

الرواية الخليجية في أوروبا

استمع إلى المقال دقيقة

رغم التحولات السردية الغنية التي تشهدها الرواية الخليجية، خلال العقود الأخيرة، فإن حضورها في المشهد الثقافي الأوروبي لا يزال مرهونا إلى حد بعيد بالممرات الضيقة للجوائز الأدبية العالمية، إذ تكشف متابعتي لحركة الترجمة والنقد في دول مثل فرنسا، ألمانيا، إنكلترا، إيطاليا، السويد وإسبانيا، عن حقيقة لافتة: لا تصل الرواية الخليجية إلى قارئ أوروبا إلا إذا حملت معها وساما ذهبيا اسمه الجائزة. فكانت العمانية جوخة الحارثي بروايتها "سيدات القمر"، الفائزة بالبوكر مان الإنكليزية جواز عبور نحو النشر الغربي، نتيجتها أن تُرجمت روايتها إلى معظم اللغات في العالم، ودخلت الرواية نقدا في الصحافة الإنكليزية والفرنسية والإيطالية والإسبانية، بوصفها كشفا جديدا عن النساء في الخليج العربي، وهذا يدل على أن النوافذ الأوروبية على الرواية الخليجية تهتم بالصوت النسوي، وقضية اجتماعية تصاغ ضمن قوالب تثير فضولهم، كالهوية والدين والطبقية والجندر...

لكن ماذا عن الأعمال التي لا تدخل هذا الإطار، أو الأعمال التي لا يحالفها الحظ بأخذ جوائز أوروبية؟ فهناك روايات خليجية تنبض بروح المكان، من عبق الخليج القديم وإنسانه، وهي روايات بقيت في الظل، بعيدا عن الضوء الأوروبي، لأنها لم تترجم، ولم تأخذ جائزة مرموقة، وأقول أوروبا تحديدا، بوصفها أصل المدرسة الروائية الحديثة، والبنية المؤسسية للنشر الغربي... لكن مع غياب نقاد متخصصين في الأدب الخليجي داخل أوروبا، وعدم وجود الوكيل الأدبي القوي... فلا تَسهل عملية الترجمة لا لغويا ولا ثقافيا إلا عن طريق جائزة دولية، وأغلب من ترجموا في مؤسسات عربية، فهي بلا وكيل أدبي، وبلا توزيع حقيقي.

من زاوية فرنسية مثلا، فقد اعتنت بالرواية المغاربية لارتباط تاريخي كولونيالي وثقافي ولغوي، وفي مصر، كان نجيب محفوظ وجائزة نوبل مفتاحا لترجمة أدباء مصريين آخرين، لكن نادرا ما تتصدر الرواية الخليجية الأولويات، لتظل آدابها السردية بالنسبة لأوروبا، منطقة غامضة، ولا يتم الاقتراب منها إلا إذا شُفّرَت مسبقا بلغة ترضي التوقعات الأوروبية، مثل الإشكاليات حول المرأة، أو نقد السلطة، أو غموض الشرق، على الرغم من أن الشرق الحديث هو بناء أوروبي في كل المجالات، ونحن كعرب قد وقعنا في فخ هذا المفهوم ونعيشه، لكن الأوروبي لا يرى ذلك.

هذا لا يعني عدم وجود روايات خليجية أخذت اهتماما واسعا، وأثبتت وجودها السردي في أوروبا وبالأخص، مثل رواية "ساق البامبو" لسعود السنعوسي، الذي رصد بذكاء صراع الهوية الخليجية والعنصرية، وطرح أسئلة وجودية تجاوزت جغرافيا الخليج، من نحن؟ وإلى أين ننتمي؟ بالإضافة إلى هموم الإنسان العالمي، من هوية وهجرة وانتماء.. بينما روايته "فئران أمي حصة"، فالاهتمام بدرجة أقل، والأمر مرتبط بالجائزة.. وهناك روايات السعودية رجاء عالم، وعلى الرغم من الترجمة الجيدة، لكن النقد حول رواياتها محدود، إلى محمد حسن علوان، بروايته "موت صغير"، وُصفت في الصحافة الفرنسية بأنها رواية ذات بُعدٍ صوفي فلسفي، وقوبلت بترحيب في الوسط الفرنسي المهتم بالفكر الإسلامي الصوفي الأدبي بالتحديد، ولكن لم ينتشر بشكل شاسع في أوروبا، إلى بدرية البشر، التي حظيت برواج المهتمين بقضايا المرأة في الخليج، من خلال رواية "زائرات الخميس"، ونوقشت في الإعلام الغربي باعتبارها نافذة على المسكوت عنه في الحياة الأسرية الخليجية، وأيضا كان النقاش بشكل محدود، إلى روايات أخرى خليجية مترجمة في المكتبات الأوروبية، لم تحظ بجائزة مرموقة، ولم تُمنح شرعية دولية، لكنها بحاجة إلى التوزيع والكتابة عنها.

بحثت عن الكتابة النقدية في أوروبا حول الرواية الخليجية، وجدت في إيطاليا مثلا لا يزال النقد قيد النمو في الصحف الإيطالية، ولعل الفوز العالمي لجوخة الحارثي، وترجمتها إلى اللغة الإيطالية حركت ذلك. بينما في إسبانيا وعلى الرغم من أنها رائدة في هذا المجال وترجمت الكثير من النصوص الخليجية ضمن مبادرات ثقافية، لكنها ما زالت تهتم بالنماذج المستكشفة عن حالات الهوية والجنس والطبقات الاجتماعية والدين... كما أن النقد الإسباني يشهد التبني التدريجي للرواية الخليجية، ولكن لم يصل بعد إلى المعالجات النقدية العميقة. ويختلف اهتمام ألمانيا بالرواية الخليجية، حيث يأتي حسب إسهامات مؤسساتها عبر منح الترجمة وتنظيم الحوارات وفرصة المشاركة في مهرجاناتها الدولية، ولكنها أيضا ما زالت تحظى بجمهور متخصص فقط... إلى السويد أو أوروبا الاسكندنافية، فلا توجد تغطية نقدية مكثفة حتى الآن، والترجمات محدودة للروايات الخليجية تلك التي تُعرض في المهرجانات الأدبية فقط، مع تصاعد مؤشرات الاهتمام العام بالأدب العالمي.

الرواية الخليجية تستحق أن تُقرأ كأدب، لا كوثيقة، وتُقدم كجمال، لا كاستثناء

تبقى المسؤولية أيضا على عاتقنا ومؤسساتنا: أين الترجمات؟ فالاهتمام النقدي شرطه الأولي هو الترجمة، فأين هي الترجمات الممولة؟ أين دور النشر الخليجية التي تؤمن بأن الترجمة ليست ترفا ولا كسبا بل ضرورة؟ أين الجهات التي تصنع الجسور بدلا من الانتظار عند بوابات الجوائز؟ فالرواية الخليجية تستحق أكثر من ذلك، وتستحق أن تُقرأ كأدب، لا كوثيقة، وتُقدم كجمال، لا كاستثناء. 

إن مسارات الترجمة والتوزيع في الغرب غير عادلة بالكامل، وتعتمد كثيرا على الجائزة والوكيل الأدبي... وسؤال لا بد من طرحه: 
ما الذي لم يُترجم حتى الآن؟ وما الذي يرغب الأوروبيون بقراءته عن الخليج العربي؟ هل تلك الروايات التي تتكئ على مرجعيات ثقافية داخلية لم تُفسر للغرب؟ أم إن تلك الروايات ذات طابع محلي جدا؟ أم إن المسألة تعود لدور النشر الغربي وتصوراتهم لسوقهم التي لا تتماشى مع المصنف وغير المصنف لقصص الخليج؟ 

font change