الأدب بوصفه استعمارا ناعما

الأدب بوصفه استعمارا ناعما

استمع إلى المقال دقيقة

من يطلع على تاريخ الأدب البريطاني، لاسيما في القرنين التاسع عشر والعشرين، يدرك أن كثيرا من الكتاب الذين يحتفى بأسمائهم اليوم كانوا في مرحلة ما مجندين أو عاملين في أجهزة عسكرية واستخباراتية، وأنهم لم يكتبوا نصوصهم من أبراج عاجية، بل من خنادق الحروب ومكاتب المخابرات، ولعل المفارقة أن شعوب الشرق، وفي طليعتهم العرب، ظلت تنظر إلى بعض هؤلاء الأدباء بإعجاب ووقار، بينما أسهمت نصوصهم، على نحو مباشر أو غير مباشر، في تثبيت الهيمنة البريطانية على تلك الشعوب نفسها.

أدركت الإمبراطورية البريطانية باكرا أن الكلمة المكتوبة قادرة على مخاطبة العقول بعمق يفوق أي خطاب سياسي مباشر، فالرواية تحمل رسائل مضمرة، يمكن أن تعيد تشكيل صورة الآخر (الشرق المستعمر)، ومن المعروف مثلا، أن الروائي غراهام غرين، كان في الحرب العالمية الثانية منتسبا إلى الاستخبارات البريطانية، ومزجت روايته "الرجل الهادئ" أو روايته "عميلنا في هافانا"، بين الفن والسياسة، بل هي نصوص مشبعة بالتجربة الاستخباراتية، تحول القارئ دون أن يشعر إلى متعاطف مع صورة الجاسوس البريطاني، ذاك الذي يتحرك بين شعوب الجنوب لفرض نفوذ بلاده. الأمر ذاته نجده مع إيان فليمنغ، الذي أنجب شخصية جيمس بوند، فلم تكن هذه مجرد رواية ترفيهية، بل أسطورة سردية (صارت بصرية بعد ذلك من خلال سلسلة الأفلام الشهيرة) كرست صورة "البطل الغربي" الذي يواجه شرور العالم، وغالبا ما تكون هذه الشرور آتية من الشرق أو من دول "غير متحضرة". ملايين القراء حول العالم، ومنهم العرب، أحبوا جيمس بوند، لكنهم لم يدركوا، أو لم يبالوا، بأن الشخصية صممت لتعزيز خيال التفوق الاستخباراتي البريطاني.

ملايين القراء حول العالم، ومنهم العرب، أحبوا جيمس بوند، لكنهم لم يدركوا، أو لم يبالوا، بأن الشخصية صممت لتعزيز خيال التفوق الاستخباراتي البريطاني

ولعل الأكثر التباسا بين هؤلاء هو جورج أورويل، فهو لم يلبس البزة العسكرية، لكنه شارك بطرائق أخرى. فبعد الحرب العالمية الثانية، صارت رواياته أداة لمحاربة الشيوعية، واحتفي به رمزا للحرية والتمرد، غير أن مساره معقد: عمل في شرطة بورما الاستعمارية، ثم في الإعلام البريطاني أثناء الحرب الثانية، وسلم الحكومة قائمة بأسماء مثقفين اتهمهم بالتعاطف مع الشيوعية. كيف يمكن أن نقرأ رواية "1984" أو "مزرعة الحيوان" دون أن نتساءل: أليست هذه النصوص أيضا جزءا من الحرب الباردة الثقافية التي خدم فيها الكاتب الدولة، لتكون نصوصه موجهة ضد الخصم الأيديولوجي الجديد، وكل خصم قد يأتي بعده.

أما أغاثا كريستي، فقد خدمتها خبرتها في الصيدلة زمن الحرب العالمية الأولى في حبك روايات بالغة الدهاء، أما حياتها الزوجية مع عالم الآثار ماكس مالوان فحملت جانبا آخر: رحلات متكررة إلى العراق وسوريا، في زمن كان فيه التنقيب الأثري غطاء لرغبة الغرب في ربط ماضي الشرق بالسردية التوراتية وتبرير النفوذ الاستعماري الجديد صحيح أن أغاثا كريستي لم تكن جاسوسة، لكن نصوصها الشعبية أعطت لمغامرات بريطانيا في الشرق سحرا ناعما، والمفارقة مجددا: إعجاب الشرق بجلاديه.

إذ استقبلت روايات غراهام غرين وفلمينغ بترجمات أنيقة، من دون أن نلتفت إلى أنها تحتفي بجهاز الاستخبارات الذي استباح بلادنا، كما وجدنا في أورويل نبيا للحرية، متناسين أنه كتب تقارير تحريضية ضد زملائه، وحتى أغاثا كريستي، التي عشق رواياتها ملايين العرب، كانت نصوصها متكئة على خبرة الحرب وأجواء التنقيب في البلاد العربية التي جعلتها مسرحا للغموض والإثارة.

يصورون المغامرات العسكرية على أنها رحلات بطولية، والتنقيبات الأثرية على أنها خدمة للعلم، والهيمنة على الشعوب رسالة تمدن

لا ننكر بطبيعة الحال أن الأدب الإنكليزي القديم لم يكن بمجمله كذلك، فشاعر القرن السابع عشر جون ميلتون انشغل بجدلياته وأسئلته حول الإنسان ومصيره، وأدباء مثل د. هـ لورنس وفرجينيا وولف وجيمس جويس وديلان توماس يمثلون اتجاها مختلفا، إذ تركزت أعمالهم على قضايا الوجود والوعي والحب والإنسان والروحانيات، وعرفوا بلغتهم الحرة البعيدة عن المؤسساتية.. لكن الأدب البريطاني تحول في لحظات كثيرة إلى أداة إمبراطورية ناعمة: يروج للبطولة البريطانية، ويمسخ صورة الآخر، والمؤسف أنه يجعل القارئ العربي نفسه شريكا في إعجاب غير واع بقوة استعمارية جردته من استقلاله.

بعض الأدباء كانوا جواسيس مقنعين، ومنهم من كان يسافر بغطاء المستكشف أو الروائي، مما أتاح لهم الدخول إلى أماكن بعينها، مستفيدين من صفتهم الأدبية لتغطية تحركاتهم، مغلفين الاستعمار بالخيال، فاستطاعوا أن يجملوا صورة الإمبراطورية، وهم يصورون المغامرات العسكرية على أنها رحلات بطولية، والتنقيبات الأثرية على أنها خدمة للعلم، والهيمنة على الشعوب رسالة تمدن، لتذوب الوحشية في قصص وقصائد ممتعة، نقرأها نحن الضحايا حتى اليوم، ويعاد من خلالها تعريف المستعمرين لا كقاهرين وغزاة، بل كصناع بطولات وآداب رفيعة، يقف ضحاياهم معجبين بنصوصهم، حتى لو حملت في طياتها مشروع إخضاعهم.

font change