نقص المعنى

نقص المعنى

استمع إلى المقال دقيقة

منذ أن بدأ الإنسان يفكر، وهو يحاول أن يمد جسورا بين الشيء وضده، بين الخير والشر، بين الجسد والروح، وبين الحب والعقل. كانت محاولاته، على مر التاريخ، سعيا متكررا نحو الكمال، ورغبة في استعادة المعنى الضائع أثناء بلوغ حالة من الصفاء الإنساني الذي يظل ناقصا، إلا أن هذا السعي، مهما اتسع، ظل يصطدم بجدار من الغموض، وكأن الفكر الإنساني ولد وفي داخله عطب سرمدي لا شفاء منه: نقص في المعنى.

ولعل هذا النقص كان محط اهتمام الفكر الفلسفي منذ بداياته الأولى، حيث سعى الفلاسفة إلى فهم العلاقة بين العقل والعاطفة، وبين الروح والجسد، ومنهم من اعتبر الإنسان عقلا فحسب، مختزلا إياه إلى آلة تفكر، لا روح تشعر، ولعلّ هذا الفصل ساهم في تراجع فهم الإنسانية لذاتها، إذ انشغل العقل بالتحليل والتجريد، مبتعدا عن الإحساس والعاطفة، فصار الحب ترفا، والرحمة ضعفا، والجمال زينة هامشية لا ضرورة لها في صلب الفهم.

وحين أهمل بعض الفكر تلك العلاقة بين العقل والوجدان، بدأ الإنسان يبحث عن المعنى خارج ذاته، منتقلا من الفكرة إلى الأسطورة، ومن الأسطورة إلى الدين، ومن الدين إلى الأيديولوجيا، وكلها أشكال متتالية لمحاولة واحدة: ملء ذلك الفراغ الداخلي. فحتى الأساطير القديمة، منذ جلجامش وحتى الإغريق، لم تكن سوى محاولة للبحث عن المنقذ، البطل الذي يملأ هذا النقص الإنساني، ومنذئذ ارتبطت فكرة الخلاص بالخيال، لا بالواقع، لأن الإنسان كلما اقترب من الحقيقة وجدها تتسرّب من يده كالماء.

وفي لحظة ما من التاريخ، تحول هذا النقص من سؤال وجودي إلى ظاهرة مادية، فحين انتقل الفكر من الفلسفة إلى الاقتصاد، ومن السؤال إلى السوق، تبدل المعنى ذاته.. لم يعد النقص في الروح، بل في المنتج، وصارت البضائع تحل محل الأفكار، وصار الامتلاء المادي يخفي فراغا معنويا أشد اتساعا، وفي عصر الاستهلاك، ولدت ميتافيزيقا جديدة: ميتافيزيقا السلعة، التي تعد الإنسان بالاكتمال من خلال اقتناء ما هو زائل.

قد يكون نقص المعنى هو ما يجعلنا بشرا، فلو اكتمل المعنى لانتهى السؤال، وانتهت معه الرغبة في الاكتشاف والخلق والحب


كان الرومان يحددون موعد الغزو السنوي لنهب الثروات بوصفه "ضرورة حضارية"، واليوم تحدد الشركات مواعيد عروضها الموسمية بالحماسة القديمة نفسها، ولكن بأقنعة من الأناقة والحداثة. الفرق الوحيد أن السيف تحول إلى شعار، والغزو إلى إعلان، وبينما كانت شركة الهند الشرقية تبحر لتحتكر البضائع، تبحر اليوم الشركات العابرة للقارات لتحتكر المعاني، فتبيعنا رموزا فارغة نعلقها في صدورنا، ونظن أننا امتلكنا بها معنى الحياة.

وهكذا تكرر المشهد ذاته بأشكال مختلفة: من الحروب إلى الاستهلاك، ومن الفلسفة إلى الدعاية، ومن الحب الإنساني إلى الحب الافتراضي. ومع كل دورة من التاريخ، يزداد النقص عمقا، وكأنه جزء من البنية الوجودية للإنسان. ومع ذلك، يبقى الأدب بأشكاله المتعددة، والتأريخ بمدارسه المختلفة، المحاولة الأصدق لاسترداد المعنى، فالأدب لا يسعى إلى الامتلاء بل إلى الكشف، والتاريخ لا يقدم خلاصا بل يتيح الفهم.

في النهاية، قد يكون نقص المعنى هو ما يجعلنا بشرا، فلو اكتمل المعنى لانتهى السؤال، وانتهت معه الرغبة في الاكتشاف والخلق والحب، وربما لهذا السبب، سيبقى النقص حافزا سرمديا في داخلنا، يذكرنا بأن الجمال لا يدرك كاملا، وأن الحقيقة لا ترى دفعة واحدة، وتبقى الروح فينا مساحة فارغة، نحاول البحث عن معنى يملؤها.

font change