تعاني الكتابة غالبا من سيطرة فهم رومانسي ينظر إليها بوصفها فعلا روحيا خالصا، يستمد قيمته من الجوهر الإبداعي لا من العائد المادي. ساهم هذا النوع من التصور، والذي يبدو نبيلا، في تجريد الكاتب من حقه المادي الطبيعي في المقابل، متجاهلا أن الكتابة قبل أن تكون إلهاما، هي عمل ذهني ومهني يتطلب وقتا وجهدا وخبرة متراكمة.
ولكن لا تزال أغلب الفعاليات الثقافية العربية والندوات الأدبية تدعو المبدعين للمشاركة دون مكافأة، وكأن حضورهم ترف فكري أو مجاملة رمزية تكمل مشهدا احتفاليا، بينما في الحقيقة، إن ما يقدمه الكاتب في نصف ساعة من الحوار أو العرض أو المشاركة ليس حديثا عابرا، بل هو نتاج سنوات من القراءة والتفكير وخلاصة للتجريب وتعب البحث الميداني والتأمل.
والقول بأن "المبدع لا يكتب من أجل المال" لا يبرر حرمانه من التقدير المادي، لأن المقابل ليس ثمنا للكلمة بل اعتراف بقيمتها.
تعامل الدول المتقدمة ثقافيا الكتاب كمهنيين، إذ يضع اتحاد الكتاب البريطانيين على سبيل المثال معايير واضحة لمكافآت المشاركات الأدبية، ويؤكد أن المشاركة المجانية تضعف قيمة المهنة وتخلق انطباعا زائفا بأن الكتابة ترف لا عمل.
وتدرج فرنسا مكافآت الكتاب ضمن ميزانيات المهرجانات والمراكز الثقافية باعتبارها بندا ثابتا لا يمكن تجاوزه تحت ذريعة التكريم الرمزي، أما في عالمنا العربي فما زال كثير من المؤسسات يتعامل مع المبدع بعاطفة لا بمهنية، يمنحونه شهادة موقعة أو درعا تذكاريا، وكأن ذلك يكفي لتغطية جهد معرفي طويل، لكن الشهادة ليست امتنانا حقيقيا، بل بديلا ضعيفا عن الاعتراف الفعلي بالجهد.
القول بأن "المبدع لا يكتب من أجل المال" لا يبرر حرمانه من التقدير المادي، لأن المقابل ليس ثمنا للكلمة بل اعتراف بقيمتها.
لا يقاس الاحترام بالكلمات بل بالفعل، ومن الإنصاف أن يمنح الكاتب المقابل ذاته الذي يمنح للمحاضر أو المستشار أو الفنان التشكيلي عند مشاركته، فالمعرفة أيضا مهنة، والوعي الإنساني الذي يخلقه الأدب لا يقل أهمية عن أي حقل إنتاجي آخر.
وثمة بعد إنساني في المسألة أيضا، إذ يحتاج الكاتب إلى الاستمرار في عمله، فالوقت الذي يقدمه للفعاليات يدخل في صميم مشروعه الإبداعي، فإذا أهدر بلا مقابل، فذلك يعني أننا نطالبه بالإنتاج دون أن نحمي شروط إنتاجه.
يقول الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو: «لا معنى للثقافة التي تستهلك صناعها». تختصر هذه العبارة المسألة بأكملها، إذ إن المؤسسات الثقافية التي لا تراعي الكتاب ماديا تسهم في إنهاكهم، وتحول الثقافة إلى عرض شكلي بلا مضمون.
والدفاع عن حق الكاتب في المقابل ليس دفاعا عن المال، بل عن كرامة الكلمة، وعن التوازن العادل بين المثقف والمؤسسة، فالمبدع الذي يكرم فعليا لا يحتاج إلى شهادات رمزية، بل إلى اعتراف واع بأن الإبداع عمل جاد، وأن الثقافة تزدهر حين تحترم أيدي الذين يصوغونها.
إنه لأمر طريف الاعتقاد أن شهادة موقعة يمكن أن تعادل أو تعوض جهدا واسما بني عبر سنين من البحث والكتابة والتكريمات الدولية.
وقت المبدع هو رأس ماله الحقيقي، ولا يصح أن يطلب منه الحضور مجانا، وكأن خبرته وتاريخه مجرد زينة في برنامج، وتاليا فإن اعتذار الكاتب في هذه الحالة ليس رفضا، بل تأكيدا على قيمة الذات، ورسالة مهذبة تقول: "احترموا الوقت والمعرفة كما تحترمون المنصة".
يرتكب المشرفون على المؤسسات الثقافية خطأ ثقافيا جوهريا حين يطالبون الكتاب بالمشاركة من دون مقابل، على اعتبار أن الثقافة لا تقدر بثمن، وكذلك فإن الشهادة الموقعة من الوزير ليست سوى لفتة رمزية قد تصلح لطالب في بداياته لم يحقق اسما ولا يمتلك تاريخا في الأدب والإعلام، ولكن الكاتب المحترف ليس هاويا يبحث عن الظهور الإعلامي، بل صاحب مشروع فكري، ومن الطبيعي أن يكافأ على وقته.
يقول الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو: «لا معنى للثقافة التي تستهلك صناعها». تختصر هذه العبارة المسألة بأكملها، إذ إن المؤسسات الثقافية التي لا تراعي الكتاب ماديا تسهم في إنهاكهم، وتحول الثقافة إلى عرض شكلي بلا مضمون.
اعتذاره عن المشاركة المجانية لا يعني على الإطلاق الانسحاب من الفعل الثقافي، بل السعي إلى حماية معناه، فالمعارض والمنتديات لا تقوم على أسماء القاعات، بل على أسماء من يصعدون إلى المنصات، وحين يغيب المبدع المكرس احتراما لوقته، لا بد أن يشعر المنظمون بنقص حقيقي يفترض أن يجدوا أنفسهم بعده مجبرين على إعادة النظر في سياساتهم.
فلن يفرح لمجرد الدعوة والظهور الإعلامي سوى كاتب مبتدئ، ولكن الكاتب المكرس لا يبحث عن الضوء، بل عن القيمة، وعن حوار يليق، وتنظيم يراعي الجهد، وتقدير يعكس وعيا.
ربما يأتي يوم قريب تصبح فيه هذه الفعاليات أكثر نضجا، فتضع ضمن ميزانيتها بندا ثابتا لأجور المتحدثين، وإلى أن يحدث ذلك، يكفي أن يبقي موقف الكاتب الجاد صاحب المشروع ثابتا ومهذبا، لأن كل رفض للمجانية يفتح الباب أمام تغيير ثقافي أوسع.