رحلة عبر الجزيرة العربية عام 1819، هو عنوان يوميات لم تُترجم بعد، دوّنها الضابط الإنكليزي جورج فوستر سادلير، سجّل فيها عبوره الطويل من القطيف إلى ينبع، أي من الخليج العربي إلى البحر الأحمر، عبر الصحراء، وقد تم نشر اليوميات كطبعة محدودة العدد في مومباي عام 1866، أثناء الحكم البريطاني للهند، أي بعد مرور سبعة وأربعين عاماً على الرحلة، وستة أعوام من وفاته.
هنا يطرح السؤال نفسه: لماذا التأخير؟ ولماذا بقي النص بعيداً عن التداول حتى في بريطانيا، رغم قيمته التاريخية الفريدة التي تكشف ملامح الجزيرة قبل قرنين.
عثرتُ على نسخة من كتابه في المكتبة البريطانية الرقمية، وكذلك في مكتبة قطر الرقمية التي لديها منصة ثنائية اللغة لسجلات رقمية، تمتد من القرن السابع عشر حتى منتصف القرن العشرين، وبعد التتبع تبين أن سادلير لم يقصد كتابة أدب رحلات، بل دوّن ملاحظات ويوميات ضابط إنكليزي عن مهمته السياسية، ومسار طويل عبر الجزيرة في الصحراء، وعن واحات النخيل الواسعة، وعن عبوره الدهناء، برمالها الحمراء، متجهاً نحو الجنوب الغربي، وبمناطق يُحتمل أنها قرب وادي الدواسر، وصولاً إلى أطراف الحجاز، ثم إلى ينبع على ساحل البحر الأحمر، حيث كانت القوافل تلتقي بسفن البحر.
نصه يشبه سجل طريق، أكثر من كونه وصفًا أدبيًا: أسماء ومواضع، مسافات مقدّرة بالمسير لا بالكيلومترات، وقوافل تتحرك تحت شمس قاسية. كَتبَ أسماء المدن والقبائل بالإنكليزية كما سمعها من أفواه العرب، مثل الإحساء، كتبه الهسا، والقطيف إلكتيف، وكتب الأسماء للمناطق والقبائل بإنكليزية متعثرة، وأقرب ما يكون لصوت البدوي... وبعد بحث في سيرته الذاتية، اتضح أنه لم يُكمل تعليمه والتحق بالجيش البريطاني مراهقًا في الهند، جاء أسلوبه بسيطًا ومباشرًا. لا نجد عنده شاعرية الرحالة الأوروبيين اللاحقين، بل نجد دهشة وتعبًا وخوفًا من الصحراء. يسجّل: من استقبله بالماء؟ أي قبيلة رافقته؟ كم استغرق المسير إلى البئر التالية؟ وهكذا تحولت يومياته إلى شهادة على ثقافة التنقل، حين كان الطريق محفوظًا في صدور الرجال لا على خرائط.
يوميات سادلير نافذة نادرة لرؤية الخليج والجزيرة، بظروفها الاجتماعية والسياسية قبل قرنين، من خلال شاهد غريب، وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال أن سادلير كان جزءًا من مشروع استعماري
هي خريطة بشرية أكثر منها جغرافية، إذ اعتمد على ذاكرة الرواة وإيقاع القافلة: نصف يوم مسير، نحو خمسة عشر أو عشرين كيلومترًا، تبعًا لطبيعة الأرض. رحلة كُتبت عن عطش الرفاق، تعب الجمال، وتوقفات الليل، أسماء الآبار، والواحات، في زمن لم تُرسم فيه بعد الحدود السياسية الحديثة... أعدُّ يوميات سادلير نافذة نادرة لرؤية الخليج والجزيرة، بظروفها الاجتماعية والسياسية قبل قرنين، من خلال شاهد غريب، وبطبيعة الحال لا يمكن إغفال أن سادلير كان جزءًا من مشروع استعماري، فقد جاء من بوشهر بأمر من الحاكم البريطاني في الهند ليعبر الصحراء ويلتقي إبراهيم باشا، ابن محمد علي، بعد أن هاجم الدرعية، وكانت مهمة سادلير إقناع إبراهيم باشا بحملة على إمارة عربية أخرى: رأس الخيمة، بقلاعها المنيعة وجدارها السميك، والتي عُرفت في الوثائق البريطانية بـساحل القراصنة، بينما كانت في حقيقتها جبهة مقاومة.
ومن هنا تأتي أهمية ترجمة يومياته، فالرحلة سبقت الحملة البريطانية على رأس الخيمة سنة 1820، تلك التي انتهت بفرض "المعاهدة العامة للسلام البحري" التي كبّلت حركة عرب الساحل والقواسم، ومنعتهم من بناء السفن أو ممارسة التجارة بحرية. من يقرأ يوميات سادلير اليوم يدرك أنها لم تكن بريئة، بل كانت جزءًا من سلسلة استراتيجية طويلة، ومع ذلك، فإن قيمتها لا تكمن في تمجيده، بل فيما تمنحه من معطيات دقيقة للتاريخ المحلي، ولجغرافيا الجزيرة وطرقها وعلاقات قبائلها... أي نصوص لا تُقرأ بوصفها مجرد وصفٍ لطريق، بل باعتبارها وثيقة تكشف ملامح صحراء كانت وما زالت ساحة صراع بين الذاكرة المحلية والمشروع الاستعماري.