في العالم العربي، نعيش مفارقة واضحة بين ما يختزنه الواقع من حياة متعددة التفاصيل والأصوات، وما تعكسه الشاشات من صورة مصقولة لا تمثل إلا جزءا ضيقا من المشهد، فكلما اقتربنا من المدن الصغيرة والقرى والبيوت والقبائل والصحراء والأسواق والمجالس، اكتشفنا مجتمعا مختلفا عما تقدمه الدراما والإعلام، وتتضح صورة مختلفة تماما عما يعرض عبر التلفزيون والسينما. نجد صورة أكثر تنوعا، أكثر محافظة، أكثر اتساعا، وأعمق بكثير مما اختزلته الشاشات على مدى عقود.
فما نراه على الشاشات ليس صورة المجتمع، بل صورة صوت واحد من طبقة محددة في عاصمة واحدة، فلا القبائل ممثلة بصدق، ولا الأغلبية المحافظة مرئية، ولا الهويات الشعبية تنقل بعمق، ولا ثقافة العيش اليومية تحترم كما هي، وكأن الشاشات العربية بنت لنفسها مجتمعا موازيا، منفصلا عن الناس، وعن نبض حياتهم، وعن ألوانهم المتعددة.
في مصر مثلا، ملايين من أبناء القبائل العربية التي تتماسك في قيمها وعاداتها وأزيائها مثل الرياشدة والحويطات والأشراف وجهينة والطملات والعقايلة وغيرهم الكثير، لكن لا وجود لهم تقريبا في تاريخ السينما والتلفزيون، وحتى حين قدم الصعيد، قدم غالبا بصورة مشوشة: ثأر، جهل، جفاف. تكرار لا ينصف الإنسان، ولا يعكس روحه ولا عمقه الأخلاقي، سوى ما ندر، بينما الواقع أكثر رحابة، وفيه من الثقافة والمروءة والعلاقات العائلية ما يغيب تماما عن الكاميرا.
وفي سوريا، حيث الواقع اليومي يظهر شعبا يغلب عليه الحجاب والمحافظة، لم تقدر الدراما هذا البعد إلا نادرا، تشاهد المسلسل، فلا تجد علاقة بين ما يعرض وما يعاش، من أزياء أهل المدينة نفسها ولهجتهم وعلاقاتهم، وكذلك الشعب الذي ينتمي في أغلبه إلى القبائل العربية من قبل الميلاد، مثل الغساسنة وممالك الأنباط، وحتى بعد الميلاد من شمر والعكيدات وبني خالد والنعيم. لكننا لا نجد سوى طبقة واحدة من طبقات المجتمع السوري العميق، ولا تعرض سوى طبقات المادة والقوة الشرائية.
وفي الخليج العربي كذلك، تتكرر الظاهرة بصيغ مختلفة. فالكويت صاحبة تاريخ درامي مشرف وبصمة بارزة في الوعي العربي، لم يمثل مجتمعها بكل طبقاته وتنوعاته، ومع ذلك ظهرت طبقة المدينة بوضوح، بلهجتها وشكل حياتها، بينما بقيت البيئات الشعبية والقبلية أقل حضورا أو محصورة في أدوار نمطية، رغم أن الواقع الكويتي أعمق وأكثر امتدادا مما تقدمه الشاشة.
جزء كبير من هذا التنوع لا يجد طريقه إلى الشاشة، فهو إما يختصر، وإما يقدم بصورة متكلفة
وفي الإمارات التي تنصهر فيها الحداثة مع الجذور، تتكرر المفارقة ذاتها، تقدم الصورة أحيانا بملامح متشابهة: لهجة واحدة تقود المشهد، ونمط حياة واحد يسيطر، وذوق بصری يكرر نفسه. والإمارات في حقيقتها فسيفساء من القبائل والمناطق والبيئات الساحلية والداخلية والجبلية، وطرق العيش المتنوعة، مجتمع يحتوي بساطة البيوت وثقافة المجالس وروح البادية وسرديات البحر غير أن جزءا كبيرا من هذا التنوع لا يجد طريقه إلى الشاشة. فهو إما يختصر، وإما يقدم بصورة متكلفة، أو يستبدل بصورة مدينية واحدة لا تمثل الجميع.
ما الذي حدث إذن؟ ربما لأن الإعلام، منذ بداياته، لم يكن ابن البيئة، بل ابن التقنية المستوردة. التلفزيون جاء من الغرب، كما السينما وآليات الإنتاج والذوق البصري، ومعها جاءت السردية الجاهزة، وهي سردية "المدينة المشرقة" التي تنظر للريف من فوق، وتلغي القبائل رغم وجودها، فترى في المرأة المحجبة دورا ثانويا، وفي الرجل المحافظ والتقليدي شخصية هامشية، وفي العادات الأصيلة مشهدا كوميديا.
ثم تكرس ذلك عبر الاستشاريين الأوائل، ممن كان كثر منهم أجانب أو متغربين، ومن بعدهم استمر الجيل الجديد على المنوال نفسه، دون أن يتساءل: هل هذا هو المجتمع؟ هل هذه هي صورته؟ هل يليق بنا أن نعرف أنفسنا للعالم عبر صورة لا تشبهنا؟
والغريب أن الشعوب العربية حين تسافر، تكتشف كم هي مختلفة عما يعرض عنها، تتعرف على ذاتها بعيدا عن الشاشات، فتكتشف اتساعها، وعمق ثقافتها، وصلابة روابطها الاجتماعية، وحين تعود إلى الشاشة، لا تجد شيئا من ذلك هناك. فهل الشاشات العربية تقدم بأمانة صورة المجتمع؟ أم إن المجتمع لم يسمح لها بأن تراه كما هو؟ ربما الأمران معا، فغياب اللجان الاستشارية المتنوعة أدى إلى أحادية الرؤية، وغياب منتجين يؤمنون بالهوية، جعل السرد يتجه نحو السوق لا الواقع، بالإضافة إلى غياب الشجاعة الذي جعل كثيرين يخافون من إظهار هويات فرعية تقلق جهة أو تزعج أخرى.
بطبيعة الحال، لا يمكن إنكار أن الدراما والإعلام رغم محدوديتهما، غيرا حياة الناس، وصاغا ذائقتهم، وغيرا مفهومهم للجمال والنجاح، وفرضا نماذجهما الخاصة. لكنهما لم يستطيعا أن يلغيا الحقيقة. فالحقيقة أكبر وأعمق وأقوى من الكاميرا.
يحتاج الالتفات إلى واقع الشعوب شجاعة. ليست شجاعة الصدام، بل شجاعة الصدق، وشجاعة النظر إلى المجتمع كما هو، لا كما تريد السوق أن يكون
ويبقى السؤال الجوهري: هل يمكن لهذه الشاشات أن تقترب من الناس بدلا من أن تبتعد عنها؟ هل يمكنها أن تعكس تنوع الشعوب بدلا من أن تختزلها؟ هل يمكنها أن تتوقف عن السخرية من المختلف، لتحتفي به؟
يحتاج الالتفات إلى واقع الشعوب شجاعة. ليست شجاعة الصدام، بل شجاعة الصدق، وشجاعة النظر إلى المجتمع كما هو، لا كما تريد السوق أن يكون، وهو أيضا يحتاج إلى منتجين يؤمنون بأن التنوع مصدر قوة، وأن الهوية ليست مادة للتسويق بل أساس للرسالة.