بدأت التفكير في هذا المقال بعد سلسلة نقاشات مع أصدقاء، حول كتاب "دوستويفسكي والله" لوسام النجار. كانت التعليقات تتجاور بين قراء يرون في أدبه حضورا روحيا لا يخطئ، وآخرين يستدعون مفكرين كبرتراند راسل، الذي يرفض أصلا فكرة أن الأخلاق تحتاج إلى مرجعية سماوية، بل ويؤكد أن الإنسان قادر على بناء قيمه من دون وحي، ومن دون نصوص، ومن دون عين علوية تراقب أو تعاقب. ووسط هذا الجدل المترف بالأسئلة، عاد سؤال قديم يلح: من أين أتى إذن ذلك العمق الغريب في أعمال دوستويفسكي؟ ولماذا يشعر القارئ بأن نصوصه ليست مجرد أدب، بل شيء أكبر، وأعمق، ومختوم بظل لا يرى؟
أظن أن مفتاح هذا السر يبدأ ولا ينتهي عند المعجزة التي عاشها دوستويفسكي يوم الإعدام الوهمي، إعدام كاد أن يكون، لولا تدخل أمر لا يصدق، فلم يكن مهددا بالموت فقط، لقد دخل فيه بالفعل. وقف مع رفاقه أمام فرقة الإعدام، ربطت يداه، سمع صوت الرصاص يشهر، ورأى البياض الأخير. كان قد سلم روحه للعدم حين وصل الفارس الضابط، معلنا العفو في الثواني الأخيرة. خرج دوستويفسكي من تلك اللحظة مولودا من جديد، فمن ينجو من الموت بهذه الطريقة لا يعود كما كان، أو ربما انكسرت في داخله الحدود التقليدية بين النفس والجسد، بين اليأس والإيمان، بين الإنسان والله، وبالتالي هي لحظة لا تصنع كاتبا فحسب، بل تصنع رسولا للألم الإنساني. ثم جاءت بعد ذلك سنوات سجنه في سيبيريا، لتعمق هذا الوعي الوجودي. عاش بين القتلة والمنفيين والمظلومين ربما، ورأى الإنسان في لحظته الخام، بلا زينة ولا أقنعة، وهناك تعلم أن الشر ليس فعلا، بل جرح، وأن الخير ليس صفة، بل صراع داخلي.
تلت ذلك نوبات الصرع التي كان يصف ما قبلها بأنها لحظة نور خارق، والفقر القاسي الذي دفعه إلى المقامرة، وفقدان الأحبة الذي عراه من الداخل، كل هذه الطبقات كونت عدسة روحية حادة، جعلت أدبه يكتب من منطقة أشد توهجا من الوعي العادي، وهنا يظهر برتراند راسل كنقيض تام، فبينما عاد دوستويفسكي من الموت محمولا على إحساس روحي لا يمكن نسيانه، كان برتراند راسل ابن عصر علمي عقلاني، يرى أن العالم لا يحتاج إلى مطلقات كي يستقيم، وأن الأخلاق يمكن أن تقوم على تطور الإنسان الاجتماعي لا على صوت علوي. إنه يمثل ذلك التيار الغربي الحداثي الذي فكك فكرة الإله النصي، وانتصر للعقل المستقل عن أي ضمان ميتافيزيقي.
تبدو أعماله وثائق روحية لا روايات، نصوصا ولدت من نار الإعدام، ومنفى السجن، وهشاشة الجسد، وقلق السؤال
والمقارنة بين الاثنين تكشف عن اتساع السؤال الأخلاقي نفسه: هل يحتاج الإنسان إلى سماء ليكون خيّرا؟ دوستويفسكي كان يجيب: نعم، لأن الضمير وحده ينهار. برتراند راسل كان يقول: لا، لأن العقل قادر على صناعة المعنى. وبينهما يقف القارئ متأملا الخندق الفاصل بين الروح التي نجت، والعقل الذي اكتفى.
في روايات دوستويفسكي نلمس آثار تلك التجربة، مع بطله راسكولنيكوف في روايته الشهيرة "الجريمة والعقاب"، لا ينهار أمام القانون، بل أمام مرآة داخله، وهناك الأمير ميشكين الذي رواه بشكل غير عادي في روايته "الأبله"، حيث يظهر ككائن نوراني يسقط في عالم معتم، إلى البطل إيفان كارامازوف، وهو يحاور الظل الإلهي بشك يكاد يكون صديقا للغيب، أكثر من الإيمان نفسه.
لهذا تبدو أعماله وثائق روحية لا روايات، نصوصا ولدت من نار الإعدام، ومنفى السجن، وهشاشة الجسد، وقلق السؤال، وحين نقرأه اليوم، نشعر أن ثمة توقيعا لا يرى فوق كل صفحة، توقيعا لا يكتبه كاتب، بل روح عادت من الحافة لتكتب ما لا يجرؤ الآخرون على قوله.
وأخيرا تكمن قيمة هذا الجدل كله مع الأصدقاء، بين دوستويفسكي الذي عاد من الموت باحثا عن ضوء سماوي، وبرتراند راسل الذي سار نحو العقل بوصفه الخلاص الوحيد في أنه يذكرنا بأن الإنسان ليس كتلة واحدة، فهناك من لا ينهض إلا بإسناد علوي، ومن لا يرى في الكون سوى قوانينه الباردة، ومن يبحث عن منطقة ثالثة بين الاثنتين.
دوستويفسكي كتب لأن قلبه رأى، وراسل كتب لأن عقله اقتنع، وبين هاتين البوابتين، يتحرك البشر، مع روح تتوق إلى معنى يتجاوزها، وعقل يصر على أن يكتفي بذاته.
ولهذا، حين نقرأ دوستويفسكي، لا نقرأ إجابات، بل نقرأ رجفة السؤال الذي يجعل الإنسان أكبر من جراحه، وأوسع من منطقه، وأكثر غموضا مما يتصوره أي فيلسوف.
يبدأ القارئ رحلة البحث عن الله داخل نفسه، سواء وجده في نور الإيمان، أو في وضوح العقل، أو في تلك المنطقة الغامضة التي لا تعرف إلا حين يفتح الكتاب
ولعل سر توقيعه الإلهي يكمن، تحديدا هنا، في أن أدبه لا يقترح علينا طريقا واحدا، بل يضعنا أمام المفترق الحاد بين سماء تنقذ، وعقل يواجه وحده. عند تلك النقطة تتساوى المسافة بين راسل ودوستويفسكي.
ويبدأ القارئ رحلة البحث عن الله داخل نفسه، سواء وجده في نور الإيمان، أو في وضوح العقل، أو في تلك المنطقة الغامضة التي لا تعرف إلا حين يفتح الكتاب… وتبدأ الأسئلة.