لا تزال صورة "التضامن النسوي" تُقدَّم في فضائنا الثقافي بوصفها حقيقة بديهية: نساء يُناصرن نساء، صوت يرفد صوتا، وكتابة تنفتح على أُخرى في ساحة واحدة تبحث عن الاعتراف.. لكن حين نتأمل تاريخ الأدب النسائي في العالم، نجد أن هذه الصورة مثالية أكثر مما ينبغي، وأن العلاقات بين الكاتبات لا تختلف في جوهرها عن العلاقات بين أي مبدعين آخرين: تماس حساس، وإعجاب متبادل، وتنافس خفي، وأحيانًا قلق من الضوء نفسه.
فالكتابة، مهما رفعت شعاراتها، تبقى تجربة بشرية لا يُلغى منها الغيرة ولا الطبقة ولا الطموح.. والكاتبات، مثل غيرهن، يدخلن هذا العالم بأحلام كبيرة ومساحة ضيقة، فيواجه بعضهن بعضا داخل حلبة ليست رحبة كما يبدو.. ويكشف تاريخ الأدب الغربي مثلا عن وجوه متعددة لهذه الظاهرة، مثل العلاقة الشهيرة بين فرجينيا وولف وكاثرين مانسفيلد، فهي خير مثال، فقد كتبت وولف عنها بإعجاب مشوب بخوف، حيث كانت ترى في مانسفيلد منافسة حقيقية، لا "أختًا نسوية"، وفي يومياتها تعابير تكشف حساسية المبدعة حين تشعر بأن مرآتها تُهددها. ومع ذلك تظهر كتابات وولف ورسائلها أن التوتر لم يكن عداء، بل مزيج إعجاب وغيرة، وهو المزاج الأكثر شيوعا بين الكُتّاب في كل زمن.
وفي فرنسا، لم تكن العلاقة بين الكاتبة الوجودية سيمون دو بوفوار والروائية كوليت مثالا على التضامن، بل على اختلاف جذري بين مدرستين: الأولى تنظيرية فلسفية، والثانية حسية جمالية. وعلى عكس ما يعتقده بعض القراء، لم تُهمل بوفوار كوليت، بل كانت كوليت من أكثر الكاتبات حضورًا في كتاب "الجنس الآخر"، حيث استندت إليها بوفوار مرارا في تحليلها للتجربة الأنثوية. ومع ذلك لم تتشكل بينهما شبكة اعتراف متبادل.
وفي أميركا، حيث تزدهر الدراسات النسوية، بقيت كاتبة مهمة مثل زورا نيل هيرستون (من أصول إفريقية) خارج دائرة الاعتراف النسوي الأبيض لعقود، إلى أن أعادت الكاتبة الأميركية أليس ووكر اكتشافها في السبعينيات عبر مقالها المعروف "In Search of Zora Neale Hurston ، الذي أعاد هيرستون إلى الضوء النقدي والأكاديمي.
واتسمت علاقة الأميركيتين سيلفيا بلاث وآن سكستون، وهما من أهم أصوات الشعر الاعترافي الأميركي بالتنافس والإحساس بالتهديد. صرحت سكستون في مقابلة تلفزيونية أن بلاث تريد أخذ المكان كله، وتنظر إليّ أحيانا وكأنني أهددها". بينما بلاث كتبت عنها: "متهورة وتستعرض الألم، وأنها تخشى أن تقارن أعمالهما دائما".
واشتهرت البريطانية دوريس ليسينغ صاحبة نوبل، بصراحتها وقسوتها في النقد، إذ رأت في بعض الممارسات الأدبية النسائية ميًا نحو المباشرة والمبالغة في الشكوى، من دون أن تتوجه بنقدها إلى أسماء محددة.
في فرنسا، لم تكن العلاقة بين الكاتبة الوجودية سيمون دو بوفوار والروائية كوليت مثالا على التضامن، بل على اختلاف جذري بين مدرستين
وفي عالمنا العربي، تتكرر القصة بملامح محلية. فمنذ القرن العشرين، لم تكن العلاقات بين الرائدات دائما سلسة، ونقرأ في سير بعض الشاعرات والناقدات إشارات مبطّنة إلى خلافات حول الأسلوب والريادة، أو إحساسا بالتجاهل المتعمد من زميلات في الوسط الثقافي. ولعل المثال الأشهر هو نقد نازك الملائكة الصريح لقصيدة النثر وبعض تجارب الشعر الحر، الذي امتد أثره إلى تلقي نصوص شاعرات ظهرن في السبعينيات وما بعدها.
وفي بداية الألفية ظهرت موجة كاتبات خليجيات في الرواية، وبينهن تنافس كبير على مساحات الصحف والجوائز.. والأمثلة كثيرة. فاليوم المشهد العربي، بخصوصيته الصحفية والجوائزية، يضاعف هذا الشعور.. فالمساحة النسائية ظلت محدودة لسنوات طويلة في الخليج، ما يجعل الضوء ذاته موضع منافسة.
كما شهدت الساحة مثلا صدامات أدبية بين مدارس شعرية وروائية متجاورة، اختلفت فيها الكاتبات حول "شكل الحداثة" و"طبيعة الصوت الأنثوي". بعض الرائدات كن ينظرن بحذر إلى الأصوات الشابة، معتبرات أن الحداثة الجديدة تُفرّط بالتقاليد التي بُني عليها حضور المرأة في الأدب.. وفي المقابل شعرت بعض الشابات أن الطريق إليهن لم يكن ممهدا من قبل الأسماء الكبيرة، وأن التشجيع النسوي ظل متقطعا إن لم يكن غائبا.
كما لعبت مركزية العاصمة العربية دورها، فالكاتبة التي تصل بسرعة عبر دار نشر قوية لا تنظر دائمًا بعين الانفتاح لمن تأتي بعدها، والكاتبة التي تنطلق من مدينة صغيرة أو خلفية متواضعة تشعر أحيانا بأن "التضامن" شعار أكثر منه ممارسة.
لكن لماذا لا تتضامن الكاتبات؟ بلا شك سيكون هذا سؤال القارئ.. ولا جواب أكثر إنسانية مما نظن، سوى ضيق المساحة النسائية في المشهد الأدبي لعقود طويلة، فلم يكن يسمح إلا بنجمتين أو ثلاث في الواجهة، فارتبط النجاح دائمًا بالتنافس. بالإضافة إلى اختلاف المدارس الجمالية، فالكاتبة الحداثية لا تتماهى مع الكاتبة التقليدية، والواقعية لا تتصالح مع التجريب.. ما يجعل الوحدة النسوية مجرد فرضية.
ولا ننسى الطبقة والمكان، فكاتبة من عائلة ميسورة في مدينة مركزية تختلف شروطها تماما عن كاتبة قادمة من أطراف المدينة، وهنا تنشأ حساسيات لا علاقة لها بالنسوية نفسها.. وأخيرا وليس آخرًا، تبقى المسألة بشرية، إذ إن الكاتبات كائنات لديهن شعور بأنهن معرّضات للرهبة والخوف من التلاشي، وأن الكتابة، مهما كانت إنسانية، لا تلغي الغيرة التي أعدّها مرضا نفسيا أكثر من كونها صفة بشرية طبيعية.
بعض الرائدات كن ينظرن بحذر إلى الأصوات الشابة، معتبرات أن الحداثة الجديدة تُفرّط بالتقاليد التي بُني عليها حضور المرأة في الأدب..
يبقى التضامن حلا، والإبداع واقعا، وليس الهدف من المقال تصوير الكاتبات كمتحاسدات، بل القول إن الكتابة منحتهن إنسانيتهن البارزة، فالمرأة في الأدب ليست نموذجا مثاليا كإنسان، بل مبدعة تخوض الرحلة ذاتها التي يخوضها الرجال، من صراع على الضوء وعلى المساحة وعلى البقاء.. وربما من جهة أخرى، هذا ما قد يجعل الأدب النسائي أكثر ثراء، إنه ليس كتلة واحدة، بل فسيفساء من الأصوات التي تتقاطع، وتتنافس، وتضيء بعضها بعضا.. حتى حين لا تتضامن.