العدالة الثقافية في الآثار المصرية

العدالة الثقافية في الآثار المصرية

استمع إلى المقال دقيقة

بُرّر إخراج الآثار المصرية على مدى قرنين بمنطقين متوازيين: الأول منطق علمي يرى أن الغرب يمتلك القدرة على الحفظ والبحث حين عجزت البلدان المستعمرة عن ذلك، والثاني بمنطق حضاري يزعم أن المتاحف العالمية هي أماكن لـلإنسانية جمعاء لا لأمم بعينها، لكن هذه السردية كانت تغطي فعلا آخر أكثر عمقا، وهو نزع الذاكرة عن أهلها، وتقديمها للعالم من وراء زجاج غربي، تقرأ فيه مصر القديمة بصوت غير مصري.

فحجر رشيد في لندن مثلا لا يروي حكاية لغوية فحسب، بل يروي الأوروبي من خلالها كيف جرى فك أسر اللغة المصرية القديمة على يد أجنبي، بينما غاب المصريون عن لحظة استعادة صوتهم التاريخي، وتمثال نفرتيتي في برلين لا يعرض بوصفه تحفة فنية فحسب، بل بوصفه رمز عين غربية تتأمل الجمال الشرقي وتؤطره في صالاتها. أما "زودياك دندرة" أو برج دندرة في باريس، فليس مجرد نقش سماوي فلكي، بل خريطة لمعنى انتزع من معبده (معبد حتحور) قرب قنا، وأعيد رسمه في متحف اللوفر كجزء من التراث الإنساني العام، وكل هذه القطع، في جوهرها، تمثل الذاكرة المسلوبة حين تنزع من جغرافيتها الأصلية ويعاد تأويلها ضمن سلطة الآخر.

العدالة الثقافية تعني أن يعاد لكل أمة حقها في تفسير رموزها، وأن تسترد الآثار بوصفها حقا في المعنى قبل أن تكون حقا في الملكية

العدالة الثقافية اليوم تعني أن يعاد لكل أمة حقها في تفسير رموزها، وأن تسترد الآثار بوصفها حقا في المعنى قبل أن تكون حقا في الملكية، فالمتحف الكبير الذي افتتح قبل أيام في مصر، ليس مخزنا للحجارة القديمة، بل منصة لقراءة جديدة للتاريخ، تتيح للمصري أن يعرف نفسه بعيدا عن الترجمة الاستعمارية التي صاغت صورته لقرنين من الزمن.

وربما لم يكن الغرب يدرك أن الاحتفاظ بالآثار ليس امتلاكا لها، بل تحنيط للذاكرة في قوالب باردة. إن ما يهم مصر اليوم ليس الاستعادة بقدر ما أنه إحياء الصوت الكامن في تلك القطع، فكل تمثال يعود، يفتح نافذة على اللغة، وعلى الجمال، وعلى العلم الذي صاغته تلك الحضارة الأولى، وبهذا، يصبح فعل الإرجاع أكثر من عملية سياسية أو قانونية، يصبح فعل إصلاح للمعنى في التاريخ الإنساني كله.

فمهما بلغت المتاحف الغربية فخامة، فإنها لا تستطيع أن تمنح القطع دفء الرمال التي خرجت منها، ولا الضوء ذاته الذي سقط عليها في الصحراء منذ آلاف السنين، فالمكان جزء من المعنى، والمعنى لا يعيش منفيا. ومن هنا، فإن عودة الآثار ليست تحديا للغرب، بل تصحيح للتوازن بين الحضارات.

لقد غيّر افتتاح المتحف المصري الكبير موازين الخطاب، فمصر اليوم لا تطلب استعادة رموزها من موقع العجز، بل من موقع القدرة. صرح ضخم يعيد تعريف المتحف بوصفه بيتا للذاكرة، لا واجهة استعمارية، ومعه يكتمل النداء الأخلاقي إلى المتاحف العالمية: أن تتخلى عن دور الوصي على الحضارات، وأن تعترف بحق الشعوب في أن تروي تاريخها بلسانها، فالعدالة الثقافية ليست أن تعرض الآثار في أجمل القاعات، بل أن تعرض في موضعها الحقيقي من الذاكرة الإنسانية، وعندما تعود آثار مصر إلى مصر، لن تكون قد عادت حجارة إلى أرضها، بل معاني إلى لغتها الأولى.

بعد افتتاح المتحف المصري الكبير على مقربة من الأهرامات، تتجدد الدعوة إلى استرداد تلك الذاكرة المسلوبة

وأخيرا، ليس السؤال اليوم عن عدد القطع التي خرجت من مصر، بل عن عدد الذكريات التي غابت معها، فكل حجر نقل إلى برلين أو باريس أو لندن ليس مجرد أثر جامد، بل ذاكرة مادية لزمن كان المصريون فيه صناع العالم القديم، واليوم، بعد افتتاح المتحف المصري الكبير على مقربة من الأهرامات، تتجدد الدعوة إلى استرداد تلك الذاكرة المسلوبة، لا بوصفها قضية وطنية فحسب، بل بوصفها قضية إنسانية وأخلاقية، وعودة الآثار هي عودة للذات التي صاغت الحاضر ذات يوم.

font change

مقالات ذات صلة