"إن ما جرى في سوريا فاق فعليا ما خلفته جحافل هولاكو من قتل ودمار في بلاد الشام... وكان هولاكو أكثر رحمة من هذا العصر الحديث". بهذه العبارة، يصف نائب الرئيس السوري السابق فاروق الشرع عهد بشار الأسد، في الجزء الثاني من مذكراته التي صدرت مؤخرا عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.
لم يكن مقررا لهذه المذكرات أن ترى النور لكونه مقيما في دمشق، ولم يغادرها، إلا أن تسارع الأحداث في سوريا وسقوط النظام في 8 ديسمبر/كانون الأول جعل صاحبها يوافق على نشرها، وقد انتهى من كتابتها في عام 2019. تأتي هذه المذكرات بعد عشر سنوات على صدور جزئها الأول بعنوان "الرواية المفقودة"، والتي انتهى الشرع من كتابتها في عام 2010، قبل أشهر من اندلاع الثورة السورية. وبينما كان الجزء الأول من مذكراته مخصصا لمرحلة الطفولة والشباب وسنوات عمله الطويلة مع حافظ الأسد، يُكمل الجزء الثاني ما تبقى من "الرواية المفقودة"، عن عهد بشار الأسد الذي خدم فيه فاروق الشرع وزيرا للخارجية من 2000 ولغاية عام 2005، ثم نائبا لرئيس الجمهورية حتى عام 2014. وهي أول مذكرات لمسؤول سوري تصدر منذ سقوط النظام، وستليها قريبا مذكرات نائب الرئيس عبد الحليم خدام الذي انشق عن الأسد في الساعات الأخيرة من عام 2005، وتوفي في منفاه الباريسي سنة 2020.
يبدأ الشرع مذكراته بالحديث عن بشار منذ عودته من بريطانيا بعد وفاة أخيه باسل في 21 يناير/كانون الثاني 1994، حيث بدأت عملية التحضير لوراثة أبيه وتكليفه بمهمات سياسية محددة، وتحديدا في لبنان، مع تدرجه في الجيش حتى وصل رتبة "عقيد". يقول إن تعطش بشار للسلطة ظهر عليه باكرا: "كان يقيس درجة الولاء له بمدى قبول الضباط الأعلى رتبة عسكرية منه السير إلى جانبه أو خلفه، وليس أمامه بأي حال من الأحوال حتى لو كان جنرالا. اشتكى إليّ مرة اللواء إبراهيم صافي، قائد إحدى أبرز الفرق العسكرية، بأن بشار كان يتخطاه ويمشي أمامه حين يزور لبنان". وعندما توفي حافظ الأسد في 10 يونيو/حزيران 2000، جرت ترقيته من "عقيد" إلى رتبة "فريق"، متجاوزا رتب العميد واللواء والعماد.
"ربيع دمشق"
كان الشرع قد تعرف على بشار، بطلب من الأخير، قبل وفاة أبيه، وفي أعقاب المؤتمر القطري التاسع لحزب "البعث" الحاكم سنة 2000، طلب إليه الأمين القطري المساعد عبد الله الأحمر أن يلقي كلمة تكون بمنزلة البيعة لبشار. ولكن الشرع رفض ذلك، وعلق في مذكراته: "ارتجلت كلمة تحدثت فيها عن مناقب الرئيس الراحل لأنني لم أجد ما يسوغ الإشادة ببشار، فلا سجل له يعد مثل سجل والده في الحزب، أو في الدولة أو الجيش". ويبدو أن الرئيس الجديد انتبه لهذا التفصيل ولم يغفره، فقد سيطرت عليه نقمة عارمة على الشرع استمرت حتى آخر يوم له في الحكم، وكانت تظهر في كل مفصل وكل حدث، صغيرا كان أم كبيرا.
يقول الشرع إن السبب الرئيس وراء كل ذلك أنه كان يعارضه الرأي في كثير من الأمور، ولعل أولها قرار الأسد إيقاف المنتديات الفكرية والثقافية التي ازدهرت في بداية عهده، وعرفت بـ "ربيع دمشق". تناولت هذه المنتديات أمورا جريئة وحساسة، فقرر الأسد إغلاقها واعتقال القائمين عليها، ومنهم طبعا نائب دمشق الصناعي المعروف رياض سيف.