عن بلاد تعيسة... بلا "هوامش"

لم تنمُ تلك الصراعات نوعياً مع تبدلات العالم والحياة من حولها طوال هذا القرن

عن بلاد تعيسة... بلا "هوامش"

استمع إلى المقال دقيقة

منذ قرن، تسيطر خمس "قضايا كبرى" على المشهد العام لأحوال بلدان منطقتنا، المسألتان الفلسطينية والكردية، وإلى جانبهما مصارعة الإسلاميين لمختلف التيارات التحديثية، السياسية منها تحديدا، أضيف إليها الصراع الطائفي منذ نصف قرن، وكان انتزاع الجيش واستحواذه على بنية الدولة قضية حاضرة في الكثير من البلدان على الدوام.

طوال قرن، رسمت تلك الخماسية شكل التاريخ في منطقتنا، وحددت مسار مجتمعاته، وصاغت نوعية الحوادث الفارقة والحكايات الكبرى والشعارات الرنانة التي حملتها مجتمعاتنا في هذا الطور، نسقت طراز علاقة منطقتنا بما بقي من العالم، وحظرت على كل ما هو مختلف عنها من التسرب والانتعاش في ربوعنا، وأقصت تجارب سياسية ومسارات اجتماعية وأساليب عيش أخرى، وحالت دون أن تنتعش في بلدان هذه المنطقة. حيث لم تسلم أية دولة من دولنا من واحدة أو أكثر من تلك "الهالات العظمى" الخمس تلك.

إلى جانب طغيانها على مسرح الحياة في بلداننا طوال الوقت، امتازت القضايا الخمس تلك بمشتركات كثيرة أخرى: فهي كانت دوماً قضايا مطلقة، غير متسامحة مع أية نسبية، لم تقبل أن تكون واحدة من القضايا إلى جانب نظيرات أخريات من قضايا الناس، كانت ممتلئة بحس الفوقية المطلقة، تطمح دوماً لأن تكون القضية الأبدية والمصيرية لكل المجتمع. كذلك كانت قضايا صفرية النتيجة، بسبب ما تحلت به من قداسة طافحة، صارت بسببها مستعصية على إمكانية التفكيك، ولو بتقادم زمني مديد. وكلها أيضاً كانت خصومات عدمية، يتطابق المتصارعون حولها في المحصلة، قيمياً وروحياً وأخلاقياً، في رؤيتهم للذات والعالم، في سلوكهم وما يفرزونه من نتائج، وإن كانوا على ضفتي الصراع. لأجل ذلك لم تنمُ تلك الصراعات نوعياً مع تبدلات العالم والحياة من حولها طوال هذا القرن.

بسبب تلك السمات المشتركة، صارت تلك القضايا ماحقة لكل ما ليس جزءا عضوياً منها ومندفعاً داخلها. لكل الأشياء والطروحات والبشر وأشكال الحياة غير الخاضعة لفروضها، المادية والرمزية على حدٍ سواء. هؤلاء "الآخرون" الذين وإن كانوا يُنعتون ويصنفون كـ"هامش"، إلا أنهم ليسوا كذلك تماماً. فموقعهم الطرفي لم يتأتَ من قِلتهم أو سوء قدرتهم، بل من خياراتهم، الرافضة لأن تكون كتلاً صماء، أو مجموعة عصبية منقادة في ركب هذه القضايا، أو حتى غيرها، مع نبذ دائم للدخول في الصراعات المطلقة والعنيفة.

ملايين كثيرة أخرى بقيت ترى في الإسلام السياسي والمتطرف مجرد عطب نفسي، وأخرى رفضت قطعاً ذلك الصراع البدائي ذات الصبغة الطائفية. أما رافضو عسكرة البلدان، فقد كانوا دوماً الأكثرية الواضحة من كل مجتمعاتنا

طوال الوقت مثلاً، كان ثمة ملايين العرب والمسلمين، وربما مثلهم اليهود، من المؤمنين تماماً بأن المسألة الفلسطينية/الإسرائيلية لا يُمكن تفكيكها بالضربات القاضية، وتالياً ليس من حلٍ إلا بتوافق سياسي متخم بروح القبول والتنازلات المتبادلة. مثلهم أيضاً كان ثمة ملايين آخرون من العرب والفرس والأتراك، الذين كانوا يعتبرون قمع الأكراد في دولهم ممارسة وحشية لا معنى لها، وإن سلامة بلدانهم مرهونة بقدر ما يحصل عليه الكُرد من حقوق مساوية لغيرهم من المواطنين. ملايين كثيرة أخرى بقيت ترى في الإسلام السياسي والمتطرف مجرد عطب نفسي، وأخرى رفضت قطعاً ذلك الصراع البدائي ذات الصبغة الطائفية. أما رافضو عسكرة البلدان، فقد كانوا دوماً الأكثرية الواضحة من كل مجتمعاتنا. 
مع كل عددهم الهائل هذا، كان هؤلاء دون صوت وصورة، ولا أثر لهم على مسرح تاريخ منطقتنا، أناس مكتفون بأشكال حياتهم العادية والخاصة، غير منتظمين في أي حزب سياسي أو خطاب عام موجِه، لا عصبية تجمعهم أو خطوط حمراء قد تستفزهم. غير مرئيين أو قابلين لإنتاج فعل عام ذي أثر أو قيمة.        
سماتهم العامة تلك ليست دلالة عليهم، بقدر ما هي تعريف واضح وناجز لنوعية الحياة التي تحياها بلداننا ومجتمعاتنا، المتخمة بالقضايا المطلقة الرافضة لأي تعايش مع غيرها. نوعية "الهامش" ذاك، كان قياساً ومؤشراً على أن الأماكن الخالية منها، هي أماكن ميتة من صخرة العالم، لا أمل فيها. لأن التاريخ بذاته هو حكاية ذلك الصراع الدائم بين الهامش والمركز، وتحول أحدهما للآخر بالتقادم ومن ثم اندثاره مستقبلاً. ونحن البلدان التي لا يحصل لديها ذلك، جعبتنا خالية من أي تاريخ.

font change