لزعيم حزب "العمال الكردستاني" عبد الله أوجلان دور محوري في "عملية السلام" الحالية في تركيا، تبعا لموقعه ورمزيته وتاريخه السياسي. لكن ثمة ما يؤشر إلى وجود "خلل" أولي حول دور أوجلان داخل المسار المُشيد، قد يتحول لاحقا إلى عطب كامل يصيب هذه العملية. فأوجلان أخبر زواره بأنه سمع بدعوة/مبادرة زعيم الحركة القومية التركية دولت بهجلي من وسائل الإعلام، لكنه بعد أيام قليلة دعا الآلاف من مقاتلي "الكردستاني" لإلقاء السلاح وتفكيك الحزب، دون أن يعرض أو أن يكون واضحا ما سوف تقدمه الدولة التركية في المقابل، من أفعال سياسية وقانونية ودستورية تجاه المسألة الكردية في البلاد.
جمع الأمرين يعني أن ثمة ما هو غير ناضج. ثمة ما هو غير مدروس ومدقق ومتابع كتفاصيل، وتاليا ثمة شك في إمكانية صمود ما يجري وصلاحه وقدرته على البقاء، وأولا جدارته بتغير الوقائع السياسة في البلاد. فما يجري بين النواة العميقة للدولة وحزب "العمال الكردستاني" يظهر وكأنه نقاط لتلاقي "الرغبات" بين المنخرطين، وفقط كذلك.
الدولة العميقة المؤلفة من زعامة أردوغان وحزب "الحركة القومية" تعيش أزمة سلطة حقيقية، تراجعت شعبيتها للغاية، وصار حزب المعارضة يُهدد حكمها من خلال الانتخابات القادمة بكل جدية. لأجل ذلك تسعى لاستمالة الأكراد، أو تحييدهم على الأقل، والظهور بصورة القادة الاستثنائيين الذين "أنهوا العنف في البلاد". قُبالتهم، يُريد زعيم الكردستاني إحداث تحولٍ ما في المسألة الكردية في تركيا، أن يخرج هو من السجن بعد أكثر من ربع قرن، وأن يجرب شكلا آخر من الكفاح مع الدولة القومية.
النخب والقادة في البلاد، الأتراك والأكراد على حد سواء، من المفترض أن يسألوا اليوم عن أشياء من مثل: أيهما أهم، جوهر إنهاء وتفكيك هذا الصراع الذي غطى قرنا كاملا من تاريخ البلاد أم شكله؟
فإن كانت "المصالح والدوافع الذاتية" دائمة الحضور في كل المصالحات كبديهيات. وإن كان إنهاء العنف/الكفاح المسلح قيمة سياسية وحياتية مضافة عليا على الدوام، محل ثناء وتقدير تاريخي، لكنهما لن يلغيا الأسئلة الأساسية المتعلقة بآلية إنهاء صراع مسلح كالذي في تركيا، حيث القضية الكردية بكل ديمومتها وجذريتها، والدولة العميقة هوية بكل صلابتها وتعنتها.
فالنخب والقادة في البلاد، الأتراك والأكراد على حد سواء، من المفترض أن يسألوا اليوم عن أشياء من مثل: أيهما أهم، جوهر إنهاء وتفكيك هذا الصراع الذي غطى قرنا كاملا من تاريخ البلاد أم شكله؟ نتائجه المستقبلية ومفرزاته على الحياة العامة ومستقبل العلاقة بين المجتمعات الداخلية في البلاد، وبينها وبين الدولة كمؤسسات وأنظمة وفضاء عام، أم الاحتفاء بإنهاء الحرب شكلا كحرب ساخنة، مع إبقائه مبارزة باردة مستدامة، تولد مزيدا من الاستقطاب والكراهية، وتبقى مُهددة للسلم الأهلي؟ مع الأمور كلها، السؤال الصميم: مَن أنتج الآخر، هل انعدام العدالة تجاه ملايين الأكراد ما أنتج الكفاح المسلح، أم العكس! وتاليا كيف يُمكن توقع إنهاء النتيجة فيما لو بقيت المنابت والأسس على ما كانت عليها؟
كثيرة هي الحكايات المطابقة لما يجري في تركيا راهنا، حيث كانت الدوافع الذاتية ورغبات القادة الفاعلين لأن يكونوا "زعماء محاطين بهالة وحكاية أسطورية" ديناميكية شبه مطلقة لإنجاز ما هو سريع ومبهر على الورق، لكن دون أن يؤدي ذلك "الورق" إلى تبدلات موضوعية، تُغير مسار الوقائع التي بسببها اندلعت تلك الحروب.
قضى كاتب هذه السطور مثلا أوقاتا طويلة في تتبع ما جرى أثناء مفاوضات أوسلو، بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. التقى مقربين من الرئيس عرفات مرارا، راجع عشرات كتب المذكرات للفاعلين وقتئذ، ومثلها وثائق سُربت على مراحل منذ توقيع تلك الاتفاقية قبل ثلث قرن. مجموع تلك المتابعات كانت تقول إن الراحل ياسر عرفات لو تحلى بمزيد من التمهل ومراجعة الحساب والصبر والتدقيق والمشورة، لكانت اتفاقية أوسلو أكثر رصانة وقدرة على تحقيق تحول تاريخي في الأقدار الفلسطينية، وتاليا المنطقة برمتها. لا يعني الأمر مناهضة السلام أو معاندة مساره، بل غالبا العكس تماما. فالسلام حتى يكون كذلك، لا بد أن يكون متزنا وصلبا وقادرا على العيش المديد.
مثل مسار الرئيس عرفات مع عملية أوسلو، لن ينسى السوريون مثلا حكاية رئيسهم شكري القوتلي أثناء تفاوضه مع الرئيس جمال عبد الناصر عام 1958. فلرغبة عارمة منه بتحقيق "الوحدة"، وأخرى للخلاص من هيمنة العسكر، سلم القوتلي بلاده التي كانت تتحلى بنظام فيه حد أدنى من الديمقراطية والحريات العامة والاقتصاد الحُر، إلى نظام سياسي كان عكس كل ذلك تماما، وتاليا أدخل بلاده في متاهة الشمولية العسكرية والصراخ الأيديولوجي. يدفع السوريون حتى الآن أثمان ذلك.
لا تُختصر الأمثلة على منطقتنا فحسب، فالمؤرخون الأوروبيون مجمعون مثلا على فداحة "اتفاقية ميونيخ" لعام 1938، بين بريطانيا وفرنسا من جهة، وألمانيا النازية من جهة أخرى، فهي من منحت هتلر شعورا متضخما بالتفوق، وتاليا فتحت باب جحيم الحرب.
في تركيا وغيرها من البلدان، تبدو ثنائية إما "سلام شكلي" وإما "حرب مستدامة" تضادا مختلقا فحسب، لأنهما يؤديان إلى المحصلة ذاتها، لأن الواقع الموضوعي يثبت حقيقة أكثر مباشرة، تقول: الحرب هي نتيجة للمجريات الغارقة في سوء العدالة، وعكسها يتطلب دوما تغييرا حقيقيا في الوقائع، لا في صورة الحرب. فتركيا اليوم، وبسبب ما يتبدل حولها وضمن مجتمعاتها، "مجبرة" على تفكيك القضية الكردية، وهذه ليست فرصة لسلام شكلي وورقي احتفالي، بل لتحول في مسار التاريخ، يصنع من تركيا دولة حديثة، ومن الأكراد مجتمعا ذا حقوق معقولة ضمن الدولة التركية.