ثمة احتمال كبير بأن تؤدي الوساطة الأميركية بين روسيا وأوكرانيا إلى تخلي الأخيرة عن أجزاء من أراضيها، حسب ترتيبات ومخارج شكلية، قد تتضمن إجراء استفتاء في بعض المناطق، لكنها ستكون غطاء لوجه الحقيقة القاسي، حيث التنازل عن الأرض هو ثمن إنهاء الحرب.
يُدخل ذلك رعباً في الأوساط السياسية الأوروبية، لأنه يُرجعها إلى زمن كانت تظن أنها قد تجاوزته، حين كانت حدود البلدان والكيانات تتغير حسب موازين القوة المحضة، ووفق ما كانت تقرره الجيوش والأسلحة والتحالفات. لكنه أيضاً يسرب إلى الذات الروسية شعوراً باستعادة الفتوة المُفتقدة. إذ لا تنفك الصحافة الرسمية ومعلقو السلطة ومحللو دوائر الحكم هذه الأيام عن التذكير بأمجاد "الإيفانين" (إيفان العظيم وإيفان الرهيب) وسطوة الاتحاد السوفياتي وانتصارات كاترين الثانية. ومثلها تمتلئ شاشات التلفزة الروسية بصور لخرائط وأسلحة وأرقام عسكرية، مطعمة بقراءة شديدة الأدلجة، حول الأعراق وصراع الأمم ومناطق النفوذ وصِدام الإرادات.
لكن فيض النشوة الروسي، المتأتي من شعور الانتصار العسكري وفرض الإرادة على الآخرين، يصطدم كل لحظة بحقائق أخرى على الأرض، مغايرة تماماً لما يُتخيل، تجري وتتكاثف في حقول وعوالم شديدة الحيوية، خارج لغة ومنطق الأسلحة المجردة والقوة المحضة.
فحتى لو حصلت روسيا على المزيد من الأراضي، لا تزيد نسبتها على ثلاثة بالألف من مساحة روسيا الحالية، وبعد حرب أرهقت فيها اقتصاد البلاد وتراجعت بسببها كل مستويات التنمية البشرية، فما الذي ستفعله مثلاً في ملف هجرة قُرابة مئة ألف طالب ومُدرس جامعي سنوياً، يغادرون البلاد لمزيج من الأسباب التي ليس لها حل في الأفق المنظور، إذ يجمعهم إحساس بعدم الأمان والقدرة على تحقيق الذات في دولة لا تتمتع بحد معقول من الحريات السياسية والمدنية، ولا يتجاوز حجم اقتصادها ما لدول صغيرة نسبياً، مثل إيطاليا وأسبانيا، في وقت تنضح فيه الجغرافيا الروسية بثروات باطنية هائلة، وتبلغ مساحتها أربعة أضعاف مساحة مجموع دول الاتحاد الأوربي وضعفي مساحة الولايات المتحدة.
النظام السياسي الحاكم للبلاد لا يمت للحداثة بصلة، فهو قائم على شمولية مُحكمة
هجرة الطلبة والخبراء والنُخب المجتمعية والاقتصادية الروسية ليست تفصيلاً في الحياة العامة، بل مؤشر واضح على نوعية الحياة في هذا البلد الاستثنائي، الذي تُشيده ثلاث حقائق موضوعية شديدة الجذرية في داخله. كلها دلائل على مدى ضعفه وهشاشته بكل المعايير، تالياً عدم قابليته للتحول إلى "دولة عظمى"، كما تُبشر الدعاية الرسمية.
فروسيا بلد نامٍ حسب جميع المعايير والمؤشرات العالمية، إذ شغلت فقط المركز 52 عالمياً في مؤشر الابتكار العالمي لعام 2025، وترتيبها في مستوى التنمية البشرية العالمي يقع في المرتبة 60، بينما لا يتجاوز متوسط أعمار مواطنيها 73 عاماً، في تطابق مع الدول الأقل تقدماً على مستوى العالم.
الحقيقة الثانية تقول إن المجتمع الروسي ما يزال مصاباً بـ"داء الماضي العتيد". ففي منظومته التعليمية وقيمه الجمعية وما يتدفق من ضخ تعظيمي عبر وسائل الإعلام الرسمية يومياً، وفيما تفترضه وتفرضه السلطة من ترتيب للأولويات الوطنية، ثمة تكريس مستدام للماضي على حساب الحاضر، ودائماً حسب رؤى وقراءات وسرديات تتطابق مع حاجة المخيلة العامة لفائض مجد متخيل في الماضي، لجبر خاطر ما في الراهن من وقائع.
مع الأمرين، فإن النظام السياسي الحاكم للبلاد لا يمت للحداثة بصلة، فهو قائم على شمولية مُحكمة، متمركزة حول شخص الرئيس بوتين وطبقات المنتفعين والمقربين منه، مع تمدد الزبائنية السياسية والاقتصادية، التي لا تفرز شيئاً خلا البؤس الاجتماعي واهتراء المؤسسات وتراجع التنمية البشرية.
هذه الوقائع المريرة تتطلب عادة لوازم من خارج سياقاتها الموضوعية، أشياء من مثل أسطورة إيليا موروميتس (إيليا البطل) الروسية، والتي تسرد حكاية بطلٍ ظل طريح الفراش 33 عاماً، ثم نهض فجأة ليجلب الماء لضيوفه، فاكتشف في نفسه قوة عظيمة، وأصبح بطلاً مغواراً، يحامي عن روسيا كلها.
هل من مطابقة لذلك مثل طموح روسيا وقائدها للظفر بأراضي أوكرانيا، واعتباره دُرة تاج الأمجاد، وليس مصادفة أن يكون ذلك في الذكرى الـ33 لسقوط الاتحاد السوفياتي.