لماذا جزيرة صير بني ياس؟

برية تصلح للعزلة

لماذا جزيرة صير بني ياس؟

استمع إلى المقال دقيقة

في تسعينات القرن الماضي، وبالتحديد عام 1992، تم اكتشاف بقايا أثر لمبنى قديم مدفون في شرق جزيرة صير بني ياس، وهي جزيرة تابعة لأبوظبي. أخذ الفريق الأثري يحفر أكثر في الموقع، حتى ثبت أن المبنى دير، وحُدّد عمر المبنى بعد فحصه بـ"الكربون 14" (وهي تقنية معروفة باسم التاريخ الكربوني المشع، تُستخدم في الحفريات بشكل واسع عالميا، لتحديد عمر الحفائر الأثرية وكل ما هو من أصل عضوي) فظهر أن الدير يعود إلى القرنين السابع والثامن الميلاديين، ولكن حتى من زاوية حفرية أخرى يتكون الدير من المنازل ذات الفناء، ومطبخ ومهاجع وحجرات ومدافن ومجمع بني حول المدفن... وحسب ما أتى في التقرير، فإنه مكان يتسع لثلاثين أو أربعين راهبا. ولأن "الكربون 14" قد اخترق المخيلة بفاعلية عميقة لآثار العالم منذ أن اكتشفه ويلارد ليبي، صاحب جائزة نوبل في الكيمياء عام 1960، فقد تمت معرفة أن العيش في هذا الدير لم يستمر سوى 150 سنة.

وفضلا على كل ذلك اتضح المزيد من خصائص الدير، بعد استخراج مئات القطع الزجاجية والخزفية، مع نقوش لنباتات تمثل سعف أشجار النخيل وشيئا من زهور المكان، كذلك الصلبان المكتشفة في قطع جصية صغيرة... وغير ذلك، لتشير الأدلة إلى أن الدير المسيحي نفسه كان حينها تابعا في تقاليده الدينية إلى كنيسة المشرق، أي ضمن المسيحية الشرقية السريانية، فإن ربطنا مبنى الدير بتاريخ تلك الفترة كانت الفترة ذاتها لبدايات الإسلام، والذي بدأ في القرن السابع الميلادي أيضا، ليبقى الدير شبيها لأغلبية الأديرة المكتشفة في منطقة الخليج العربي، وبالأخص في عام 1993 حين اكتشف مدير الموقع، تلك الصلبان الصغيرة الجصية بزخارفها ومقارنتها بالصلبان الجصية التي تشبه ما عُثر عليه في الأديرة النسطورية المكتشفة في جزيرة فيلكا، وخَرْج، وجبيل وعكاظ... مع إثباتات الاتصالات التجارية أيضا مع البحرين والهند والعراق.

البعض يتصور أن جزيرة صير بني ياس قاحلة، وهي ليست كذلك، لأنها كانت في الأصل موطنا للغزلان والمها العربي وأنواع من الطيور والثدييات

ليبقى سؤال اليوم مشروعا، وهو لماذا هذه الجزيرة تحديدا، فهل من أجل العزلة كما هي الكنائس الأخرى في مدى القرون السابقة، حيث سعى الرهبان إلى العزلة وهم في طريقهم إلى التنوير الروحي، فاختاروا أماكن منعزلة على مستوى العالم؟

البعض يتصور أن جزيرة صير بني ياس قاحلة، وهي ليست كذلك، لأنها كانت في الأصل موطنا للغزلان والمها العربي وأنواع من الطيور والثدييات... والتي أخذت تنقرض في القرن العشرين بسبب صيد الغرباء، حتى بداية سبعينات القرن الماضي. وبعد الاتحاد، وبقرار رئاسي، تم تحويل جزيرة إلى محمية طبيعية، بعد تعرض الحيوانات بأنواعها للإبادة، أما بعد المنع فأصبحت موطنا لأكثر من خمسمئة نوع من الحيوانات بعد تكاثرها وتزايد أعدادها إلى أكثر من ثلاثين ألفا، بجانب زيادة أنواع كثيرة من الثدييات ومئات الأنواع من الطيور، بما فيها الطيور المهاجرة التي تمر موسميا...

إذن كانت الجزيرة مكانا مناسبا لإقامة الدير في هذه البرية التي تصل مساحتها إلى سبع وثمانين كيلومترا مربعا فقط، لكنها اليوم تُعد أحد أكبر تجمعات المها العربي في العالم، وهو نوع من الظباء الشائع في شبه الجزيرة العربية. وبعد أن كاد يختفي من البرية في سبعينات القرن العشرين، وأنواع أخرى من الظباء، وكذلك الفهود والضباع والحمار الوحشي والزرافات والأغنام والنعام والسلاحف البحرية التي كانت مهددة بالانقراض... فلا غرابة أن هذه البرية تصلح للعزلة، بين كائنات كانت تتجول بحرية في مساراتها الطبيعية تعلوها الطيور بأنواعها الصحراوية والمهاجرة... وكلها كائنات أصيلة في المنطقة، ما عدا الزرافات والغزلان والفهود، التي تم إدخالها إلى الجزيرة لإثراء التنوع البيولوجي بين كثبانها الرملية وتلالها الصخرية.

وأخيرا ما نلاحظه اليوم، أن كل من أراد العزلة والتجلي، والاختلاء بنفسه بعيدا عن المدن والأعمال، يذهب إلى جزيرة صير بني ياس، طلبا للتشافي والتأمل الذاتي من فوضى الأصوات العالية واضطراباتها، كما كانت الرهبنة يوما تعني العزلة الإيمانية في جوهرها، من خلال العبادة صلاة وتأملا.

font change