لماذا "البؤساء" رواية العمر؟

لماذا "البؤساء" رواية العمر؟

استمع إلى المقال دقيقة

كتب فيكتور هوغو رواية "البؤساء" خلال سبعة عشر عاما، أي حرفيا هي رواية العمر. كتبها في فترتين متعارضتين تماما في تطوره الشخصي والسياسي. فلو عدنا إلى عمره حين بدأ كتابة "البؤساء"، فقد كان يبلغ من العمر 43 عاما، وكان حينها أكاديميا وكاتبا، وشخصية اجتماعية مرموقة، استقبله الملك لوي– فيليب وكرمه وعينه عضوا في مجلس الأعيان الفرنسي، ما يعادل عضوية مجلس الشيوخ، عن حزب "النظام المحافظ"، وهو حزب يميني. لكن صدفة، يتم القبض عليه متلبسا بأمر غير مشروع مع امرأة، فتشوهت سمعته، فأمر الملك أن يُنسى لفترة من الوقت، بعزله في منزل يطل على ساحة فوج. وهناك يعزل نفسه ويؤلف كتابات تُنسي الناس ما فعل، فكتب كتابا يرد به على كتاب "الكوميديا الإنسانية" لـبلزاك، متوقفا عن إكمال "البؤساء"، وبشكل عام عن كتابة الروايات والمسرحيات، وأخذ يتابع الناس البسطاء، استنادا إلى مصيره في السجن الأنيق المحرر من السجن.

بعد خروجه انشغل بالقضايا الإنسانية والواقع المعاش، فأخذ يزور السجون ومستعمرات العقوبات والمصانع والبلدات الصغيرة، ويلتقي بالعاملين، وأخذ قلمه يذهب باتجاه الفقراء والواقع، وعاد إلى تكملة "البؤساء"، حتى تركها من جديد دون إكمالها بسبب اندلاع ثورة 1848.

وهوغو شخصية إنسانية فاعلة، ليس في الكتابة فحسب، بل تفرغ للسياسة ليرشح نفسه هذه المرة عضوا في "الجمعية الوطنية"، فتم انتخابه، ويصبح يساريا بعد أن كان يمينيا، ويلقي خطاباته المعروفة دفاعا عن العُمال، وعن حرية الصحافة، والتعليم... إلا أن ما أتى بعد الثورة، وحضور نابليون الثالث مرشحا نفسه لرئاسة الجمهورية الفرنسية ليفوز بها، وهو ابن أخ نابليون بونابرت، والذي أخذ يقلد عمه بعد انتهاء مدة رئاسته، بتمسكه بالسلطة، منقلبا على الدستور والجمهورية، مطلقا على نفسه الإمبراطور نابليون الثالث منهيا الجمهورية الثانية... هنا أطلق فيكتور هوغو عليه اسم "نابليون الصغير"، وكان معارضا له. ولم يكتف، بل جعله عنوانا في إصداره الجديد: "نابليون الصغير" وهو كتاب تاريخي مهم يحلل فيه الأحداث الكبرى ودور الأفراد فيها، ليقوم نابليون الثالث بنفيه إلى جزيرة غيرنزي في بحر المانش الواقع بين فرنسا وبريطانيا، ولمدة خمس عشرة سنة، بعد أن كاد يعدمه.

تغير فيكتور هوغو في سنوات المنفى، وهناك لم يعد لإكمال رواية "البؤساء"، فمع انبهاره بالجزيرة وجمالها خلال إقامته، كتب عمله المعروف "الرجل الذي يضحك"

تغير فيكتور هوغو في سنوات المنفى، ولم يعد تلك الشخصية الأولى حين كان منخرطا في السياسة، وله مكانته في الحكومة، وهناك لم يعد لإكمال رواية "البؤساء"، فمع انبهاره بالجزيرة وجمالها خلال إقامته، كتب عمله المعروف "الرجل الذي يضحك"، وفي هذا الوقت كان قد مرّ على رواية "البؤساء" الناقصة كمخطوط ثماني سنوات دون أن يلمسها، وهذا نادر جدا في قصص الأدباء، بترك المخطوط كل هذه المدة، فلم يعد نفس الكاتب أيديولوجياً، ولم يعد متفقا مع كتبه الأولى، بعد انتقاله إلى أقصى اليسار السياسي، إلى أن زارته صديقته جولييت درويه وحثته على إكمال "البؤساء"، وكان حينها قد وصل إلى سن الثانية والخمسين من العمر، معتقدا أنه لم يعد يصلح لشيء، خاصة بعد حظر كتبه.
وبصعوبة بدأ يقرأ مخطوط "البؤساء" من جديد، ولمدة ستة أشهر كاملة، يقرأها ويعيدها، رغبة في استيعابها من جديد، يتأملها كشخص له طموح سياسي واجتماعي بتأسيس ديمقراطية مع شعب يجيد القراءة، يرغب في تكوينهم نحو الارتقاء لتصبح فرنسا جمهورية عظيمة أمام العالم كله، فراهن على الرواية، ليغير بعض المشاهد، وأضاف لها شخصيات كسبت أهميتها فيما بعد، ووضع وجهات نظر أخرى، وسلط الضوء على البروليتاريا، وانحدار المرأة مع الجوع، وضمور الأطفال، والجهل والبؤس... وأخذ يطرح التحدي من خلال الشخصيات: كوزيت، وجان فالجان، وماريوس، وغيرهم ليدفعهم، إلى التباري، والتغلب على الظلم بالفعل والعمل والمواجهة... حتى أنهى هوغو مخطوطته ونشرت عام 1862، وكان يبلغ من العمر الستين، ليحقق نجاحا باهرا في فرنسا وخارجها، حيث بدت الرواية صالحة لكل زمن، ولجميع الثقافات من الدول الأخرى البعيدة. 

و"البؤساء" عمل تقدمي، وينبغي أن نقرأه لا باعتباره رواية مجمدة أو نصبا تذكاريا، بل لأنها تعنى بقضية الفقر العالمية.. يتساءل البعض: لقد تقدمت الديمقراطيات في العالم، فهل انتهى الفقر والفساد والظلم؟ الفقر بوصفه أساس البلاء على الأرض؟ 
ولتوضيح ذلك، فيكتور هوغو لم يكتب "البؤساء" فحسب، بل رسمها كلوحة جدارية بمشاعره الخام وفكره العميق، لتحمل في ثقلها حقائق كبرى، يذكرنا من خلالها بالاستمرار في محاربة الفقر مهما كانت أسبابه.. لذا فهي رواية العمر. 

font change