بالعودة إلى التاريخ والبحث في ماضي تطور العلوم الاجتماعية والاقتصادية، نجد نظريات الاسكتلندي آدم سميث تطرح نفسها اليوم من جديد، خاصة أن سميث يُلقب بالأب الروحي لعلم الاقتصاد، في كتبٍ كتبها خلال القرن الثامن عشر، تحتوي على نظريات آمن بها العالم، لا سيما بعد أن وضع نظريته الشهيرة: "نظرية المشاعر الأخلاقية".
وما يهمني في تلك النظريات الاقتصادية هو طريقة توضيحه لها من خلال المشاعر الأخلاقية وكيف أصبح الناس لا يتعاطفون مع بؤس الآخرين وحزنهم ولا مع فرحهم، بل كيف أصبح الفرد يبدي العاطفة للآخر من خلال الإيماءات والنظرات فقط، فلم يعد العموم يراعي الوضع الحقيقي للآخر...
وفي هذا الإطار فكّر سميث بالاقتصاد وكتبه من خلال عاطفة الناس، ومدى شعورهم بالمتعة من وجود آخرين يشاركونهم نفس المشاعر، وبطبيعة الحال عن استيائهم ممن يخالفون مشاعرهم ولا يراعونهم.
استنادا إلى ما سبق، تتبعتُ سيرة آدم سميث الذي عاش في القرن الثامن عشر، أي في زمن كانت بلاده تتوسع جغرافياً، وهي فترة عاشت بريطانيا فيها انتعاشا اقتصاديا ضخما، نتيجة تحكمها في مستعمرات شاسعة. حصيلة السيطرة هي طغيان السلع وتدفقها في أسواق بلاده، وتأثيرها المادي الضخم على مجتمعه، وعلى سلوكيات الناس حوله، وخاصة الأثرياء الجدد، الذين لم يعودوا يختارون من الممتلكات والثروات إلا ما هو ثمين ولذيذ. بالمقابل يستهلكون أموالهم الضخمة ويقضون أوقاتهم بأنانية غريبة، فلا يقصدون سوى راحتهم ورغباتهم الزائفة، ليتقاسموها مع جهد الفقراء في أعمالهم المرهقة..
ولهذا اقترح آدم سميث نظرية التعاطف المتبادل للحزن والفرح. فما وجدته في كتابه براعته الإنسانية في شرحه عن حلاوة هذا التعاطف المفقود، والذي بإمكانه أن يقوي الاقتصاد والمجتمع معا، واضعا حلا لكيفية الصعود في المرتبة الاجتماعية بخطوات تدريجية، مع تمهيد الطريق للشخص من خلال الاستحسان والعطاء قبل أن يتخذ الخطوة التالية، ما يمنح الناس الوقت للتكيف، وبالتالي تجنب غِيرة أولئك الذين يتجاوزونهم، أو حسد الذين أصبحوا خلفهم.
مما لا شك فيه، أننا اليوم ملزمون باستثمار تلك المبادلة العاطفية، استعدادا لحياة اجتماعية أكثر سلامة، ومسار عملي تغلب عليه الرحمة
إذن لم يشرح آدم سميث كل ذلك إلا بعد تغييرات نفسية وأخلاقية حوله، وكأن الأمر متعلق بالمصلحة الذاتية، مدركا سخرية البعض من نظرياته في هذه المواقف الصعبة؟ خاصة عن مدى مصلحة المشاركة في المشاعر ذاتها؟
إذن حري بنا أن نفهم كيف قام سميث بوضع نظرية اقتصادية من خلال قصة المراعاة للشعور، والدخول في المبدأ السلوكي الاقتصادي للإنسان في عصره، والبدء بذكر أمثلة عن ميول الإنسان القديم للمقايضة في أغراض التجارة، أو مبادلة السلع على المستوى التجاري، إلى تبادله الهدية أو المساعدة أو الخدمة على المستوى الاجتماعي، وسواء كانت سلعا تؤدي إلى مكسب تجاري للطرفين، أو خدمات بدافع التعاطف، فكلها كانت سعيا لهدف مجتمعي، أو وصف لمشروع اجتماعي ثقافي اقتصادي بشري.
إذن مما لا شك فيه، أننا اليوم ملزمون باستثمار تلك المبادلة العاطفية، استعدادا لحياة اجتماعية أكثر سلامة، ومسار عملي تغلب عليه الرحمة، نستعيد أنفاسنا بعد غفلة من الهجوم المادي الزاحف بقوة، ونعود لصوت الأم بوصفها المصدر الأساسي للعطف، ولمتعة المشاعر أثناء قلقنا على الآخر، فكم نفتقد أولئك الناس وهم يتشاركون مشاعر بعضهم ماديا، وهو ليس إلا تفسير للذة الشعور الأصلي المفقود بعيدا عن المصلحة الذاتية، وحتى من جهة سلبية، مثل شعور الاستياء، لكل من لا يراعي المشاعر... لترتد مجددا نظريات آدم سميث عن معنى المال.