القاهرة - يحمل مقهى صغير في زقاق متفرع عن شارع "حسين باشا المعماري" في وسط مدينة القاهرة اسم "الخنّ". يشير هذا اللفظ إلى ضيق المكان، وإلى كونه جيبا مخفيا، يصعب التعرف اليه وقصده من دون نية وتدقيق. لكن المقهى، بعكس شخصية الباشا الذي يشاع عنه أنه كان محبا لعزلة عاونته على التفرغ لهندسات مبان شهيرة خرجت خططها من تحت أنامله في القاهرة والإسكندرية، مطلع القرن الماضي، ما هو إلا ممر ضيق يعج بالرواد الذين يلفظون الكثير من فقاعات الدخان، فيما يتناولون المأكولات المصرية الشعبية، مع أقداح القهوة والشاي، ويتواصلون بعضهم مع بعض، بدفء ومودة إنسانيين لافتين، على وقع نغمات أغان، أو ملاحظات حماسية من المعلقين على مباريات كرة القدم التي لا ينقطع بثها عبر شاشة التلفزيون.
ممرات وزوايا
صورة "الخنّ" وروّاده، هي واحد من آلاف المشاهد التي يمكن مصادفتها، داخل "متاهة" مكانية ممتعة ومؤثرة، تكوّنها شبكة موازية من الممرات وزوايا الشوارع ومداخل العمارات والمخازن ومواقف السيارات، في هذه الرقعة الواسعة من وسط القاهرة، التي وجّه أحد حكام مصر، الخديوي اسماعيل (توفى 1895)، ببنائها، أثناء حكمه بدءا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر طوال 16 عاما، لكي تكون بمثابة "قطعة من أوروبا"، أو، كما في سريرته وحلمه، كي تتنافس مع كبرى الحواضر في باريس وفيينا ولندن، وتتفوق عليها.
من طموحات "المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي"، بقيت اليوم مظاهر شامخة، مرهقة بفعل الزمن، ينتظر بعضها الترميم، لكنها، وسط شبكة من التخطيط العمران التاريخي، الذي يختلط مع الموازي الأحدث الفوضوي و"الخفي"، لا تزال، بعد أكثر من مئة وخمسين عاما على بداية تكوّنها الأول، نابضة بكل مظاهر الحياة، عابرة بين طبقات الناس وانتماءاتهم، موفرة مساحات ترفيه مجانية للمعوز وأخرى فاخرة للمقتدر، وجاذبة بشكل خاص لمشاريع تطويرية، فتحت بوابات كثيرة لمحبي الفن والسرديات، ليجددوا عودات غير منقطعة إلى مكان اشتهر دوما بكونه القلب الإبداعي النابض للمدينة.
"أسبوع القاهرة للصورة" هو إحدى تلك الفعاليات. يعلّق، كل عامين، آلاف الصور، ناثرا معها آلاف الحكايات، وحاشدا مئات المبدعين المصريين والعرب والأجانب، في مساحات في "وسط البلد"، بعضها مسارح ودور سينما عريقة، معاد ترميمها من قبل شركة تطوير عقارية نسبت فكرها إلى روح الخديوي المؤسس، حاملة اسم "الإسماعيلية"، وبعضها الآخر قصور وفلل تاريخية، ذات تصميمات عمرانية وهندسية خلابة ونادرة في جمعها الروح الغربية والمشرقية، هجرت لعقود طويلة، قبل أن يعاد فتحها خصيصا من أجل المصورين الفنانين، فتحتضن معارضهم، مضفية سحرا سلسا وحوارا خفيا، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ممتدا عبر الزمن.
صخب وشغف حول فن الصورة
على مدى ثماني سنوات، حفرت هذه الفعالية اسمها في الفضاء الإبداعي الصاخب لمركز المدينة، وتمكنت في دورتها الرابعة هذا العام من كسر أرقام قياسية متعلقة بطفرة في عدد المحاضرات والندوات وورش العمل والعروض التوضيحية والمعارض الفردية والجماعية، التي تهدر في منطقة واحدة، وزمن قصير نسبيا، ليفوق عددها مجتمعة رقم الـ 150.