150 معرضا ولقاء حول "الفوتوغراف" في قلب العاصمة المصرية

"أسبوع القاهرة للصورة" يعرض آلاف الصور النادرة ويحاور العمارة المبهرة لـ"وسط البلد"

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
بيت باب اللوق من الداخل

150 معرضا ولقاء حول "الفوتوغراف" في قلب العاصمة المصرية

القاهرة - يحمل مقهى صغير في زقاق متفرع عن شارع "حسين باشا المعماري" في وسط مدينة القاهرة اسم "الخنّ". يشير هذا اللفظ إلى ضيق المكان، وإلى كونه جيبا مخفيا، يصعب التعرف اليه وقصده من دون نية وتدقيق. لكن المقهى، بعكس شخصية الباشا الذي يشاع عنه أنه كان محبا لعزلة عاونته على التفرغ لهندسات مبان شهيرة خرجت خططها من تحت أنامله في القاهرة والإسكندرية، مطلع القرن الماضي، ما هو إلا ممر ضيق يعج بالرواد الذين يلفظون الكثير من فقاعات الدخان، فيما يتناولون المأكولات المصرية الشعبية، مع أقداح القهوة والشاي، ويتواصلون بعضهم مع بعض، بدفء ومودة إنسانيين لافتين، على وقع نغمات أغان، أو ملاحظات حماسية من المعلقين على مباريات كرة القدم التي لا ينقطع بثها عبر شاشة التلفزيون.

ممرات وزوايا

صورة "الخنّ" وروّاده، هي واحد من آلاف المشاهد التي يمكن مصادفتها، داخل "متاهة" مكانية ممتعة ومؤثرة، تكوّنها شبكة موازية من الممرات وزوايا الشوارع ومداخل العمارات والمخازن ومواقف السيارات، في هذه الرقعة الواسعة من وسط القاهرة، التي وجّه أحد حكام مصر، الخديوي اسماعيل (توفى 1895)، ببنائها، أثناء حكمه بدءا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر طوال 16 عاما، لكي تكون بمثابة "قطعة من أوروبا"، أو، كما في سريرته وحلمه، كي تتنافس مع كبرى الحواضر في باريس وفيينا ولندن، وتتفوق عليها.

من طموحات "المؤسس الثاني لمصر الحديثة بعد محمد علي"، بقيت اليوم مظاهر شامخة، مرهقة بفعل الزمن، ينتظر بعضها الترميم، لكنها، وسط شبكة من التخطيط العمران التاريخي، الذي يختلط مع الموازي الأحدث الفوضوي و"الخفي"، لا تزال، بعد أكثر من مئة وخمسين عاما على بداية تكوّنها الأول، نابضة بكل مظاهر الحياة، عابرة بين طبقات الناس وانتماءاتهم، موفرة مساحات ترفيه مجانية للمعوز وأخرى فاخرة للمقتدر، وجاذبة بشكل خاص لمشاريع تطويرية، فتحت بوابات كثيرة لمحبي الفن والسرديات، ليجددوا عودات غير منقطعة إلى مكان اشتهر دوما بكونه القلب الإبداعي النابض للمدينة.

"أسبوع القاهرة للصورة" هو إحدى تلك الفعاليات. يعلّق، كل عامين، آلاف الصور، ناثرا معها آلاف الحكايات، وحاشدا مئات المبدعين المصريين والعرب والأجانب، في مساحات في "وسط البلد"، بعضها مسارح ودور سينما عريقة، معاد ترميمها من قبل شركة تطوير عقارية نسبت فكرها إلى روح الخديوي المؤسس، حاملة اسم "الإسماعيلية"، وبعضها الآخر قصور وفلل تاريخية، ذات تصميمات عمرانية وهندسية خلابة ونادرة في جمعها الروح الغربية والمشرقية، هجرت لعقود طويلة، قبل أن يعاد فتحها خصيصا من أجل المصورين الفنانين، فتحتضن معارضهم، مضفية سحرا سلسا وحوارا خفيا، اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا، ممتدا عبر الزمن.

صخب وشغف حول فن الصورة

على مدى ثماني سنوات، حفرت هذه الفعالية اسمها في الفضاء الإبداعي الصاخب لمركز المدينة، وتمكنت في دورتها الرابعة هذا العام من كسر أرقام قياسية متعلقة بطفرة في عدد المحاضرات والندوات وورش العمل والعروض التوضيحية والمعارض الفردية والجماعية، التي تهدر في منطقة واحدة، وزمن قصير نسبيا، ليفوق عددها مجتمعة رقم الـ 150.

"أسبوع القاهرة للصورة" هو إدى تلك الفعاليات، الذي يعلّق، كل عامين، آلاف الصور، ناثرا معها آلاف الحكايات، وحاشدا مئات المبدعين المصريين والعرب والأجانب، في "وسط البلد"

حضرت سردية تاريخ مصر، عبر قرن وأكثر بواسطة توليفات مديدة من أزمنة الصورة الصحافية في الجرائد والمجلات، التي أفرد لها معرض متخصص باسم "صاحبة الجلالة"، في المبنى نفسه الذي تتكون من أسفله غمامات الدخان الجماعي. هناك أيضا استحضارات احتفائية بأثر مصورين بارزين سواء كانوا مصريين أو عربا وأجانب عاشوا في القاهرة على امتداد مراحل زمنية مختلفة، ناهيك عن الاستعادات النوستالجية لأحياء ومظاهر حياة من القاهرة آخذة بالاندثار بفعل مشاريع التطوير والحداثة.

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
صورة لفاتن حمامة معروضة ضمن معرض "صاحبة الجلالة" عن التصوير الصحافي في مصر

رفع الاحتفاء بالصورة أيضا عناوين قضايا إنسانية عادلة ملحة، مثل القضية الفلسطينية، أو المسببات الأليمة للترحيل القسري على مستوى العالم، كما العنف ضد النساء وقسوة ظروف عيشهن في مناطق النزاعات، وتشرد الأطفال المعوزين، والفروقات الاقتصادية الهائلة في حياة البشر على الأرض، التي تتمثل بشكل صارخ في تفاوت الوصول إلى موارد الغذاء وتلبية احتياجاته في وجه التقنين والجوع والمجاعات، إضافة إلى معارض تحتفي بالتاريخ الفني الطويل النافذ من القاهرة وتأثير قواها الناعمة عبر الأدب والسينما والموسيقى ومسلسلات الدراما وعروض الأزياء... توزعت تلك، وغيرها، على امتداد أكثر من 14 منفذا، وبأساليب عرض حديثة لم تستثن التكنولوجيا في المرئيات والمسموعات، مما جعلها قادرة على استقطاب جمهور الشباب الذي اعتاد على التفاعل عبر الوسائط الحديثة.

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
معرض "الترحيل القسري" ضمن أسبوع القاهرة للصورة

هدايا المتاهة

تحدد مروة أبو ليلة، المؤسسة والمديرة التنفيذية لمؤسسة "فوتوبيا"، المسؤولة عن تنظيم " أسبوع القاهرة للصورة"، في حديث خاص مع "المجلة"، ثلاث مزايا جوهرية لدورة هذا العام: "الحوار الحضاري بين روح المكان العريق وبين الصورة المعاصرة التي تحمل قضايا الناس، قدرتنا على استضافة مصورين شباب من الأقاليم المصرية كافة ووضعهم على مسافة تبادل خبرات مع مخزون العاصمة ومع زوارنا من المؤسسات والأفراد العالميين، ونقل تجربة اختمار التاريخ الطويل لفن الفوتوغرافيا في مصر والخبرات التراكمية إلى خارج حدود البلاد عبر مجموعة من ورش العمل والبرامج التدريبية التي بدأنا بتنظيمها في المنطقة العربية".

في القيمة التفاضلية الأولى، المتعلقة بحوار العمارة مع الفوتوغراف، يحتل بناءان تاريخيان، بشكل خاص، المشهد: "بيت باب اللوق" واحدى شقق الطابق الأعلى في "عمارة الشوربجي".

مروة أبو ليلة، المؤسسة والمديرة التنفيذية لمؤسسة "فوتوبيا"

امتلك محمد فيظي باشا ابن علي آغا (توفى 1911) فيلا فاخرة عند تقاطع شارعي "الفلكي" و"المنصور" في المنطقة التي عرفت بشكل خاص بمساكن المسؤولين الكبار في الإدارة المصرية. في العام 1883 عيّن مديرا للأوقاف واحتاج إلى عشر دقائق فقط لكي يتنقل كل صباح بين مسكنه ومركز عمله، من دون أن يغفل ربما الالتفات يوميا إلى مجسم ذلك الديك المعدني المثبت فوق قرميد البرج البارز للفيلا لتبين حالة الطقس عبر حركة الريح. عرف الديك بعد أجيال ملّاكا آخرين ملأوا المكان بالحياة، وصولا إلى مرحلة الصمت، حيث انتهت الردهات الكبيرة تحت السقوف العالية، والسلالم الحلزونية المؤدية إلى سطح يطل على شوارع عريضة وسنوات مديدة من التحولات، إلى مخازن حوائج ومهملات، وأقفل البيت أبوابه.

رفع الاحتفاء بالصورة أيضا عناوين قضايا إنسانية عادلة ملحّة، مثل القضية الفلسطينية، أو المسببات الأليمة للترحيل القسري والعنف ضد النساء وتشرد الأطفال المعوزين

"على مدى سنوات دراستي الجامعية، كنت أمر كل يوم بهذا البناء، أتأمل الديك والبرج والقراميد المدببة. بدا لي دوما أنه خارج من كتب الأساطير، ولطالما شعرت بفضول ورغبة جامحين بأن أدخله وأقوم بجولة"، تقول رندا شعث، المصورة الفلسطينية المقيمة في القاهرة منذ سنوات، والتي كان عليها الانتظار لأكثر من أربعة عقود لكي تتحقق أمنيتها، وتدخل المبنى المبهر، لا كزائرة متلصصة، بل كفنانة عرضت في صالة البيت الرئيسة في الطابق الأرضي 20 صورة من مجموعتها التي ترصد وتوثق مظاهر الحياة في المدينة خلال تسعينات القرن الماضي تحت عنوان "القاهرة 90".

ملصق معرض القاهرة 90 لرندا شعث ضمن فعاليات أسبوع القاهرة للصورة

تركز صور شعث على إرادة الانسان في مواجهة التحوّلات التي تنال من المكان الذي يعيش فيه وقدرته على إيجاد مسارب الأمل والبهجة في كل الظروف. كما تظهر بعض الصور قوة النساء بشكل خاص ومقدرتهن على تدبير شؤون حياتهن والمحيطين بهن، وكذلك لحظات استراحة مستقطعة من حياتهن الصاخبة أو الشاقة، يقضينها على مقربة من النيل، أو في الأسواق الشعبية. استفادت المصورة من خبرتها في التواصل مع نبض الشارع عبر سنوات عملها لفترات طويلة في مؤسسات صحافية، فجاءت الصور استعادات فنية جمالية، ذات أثر توثيقي بحثي وسردي عن زمنها: "علاقتي بالناس في شوارع القاهرة وطيدة. إنها مدينة مغرية لأي مصور إذ تهدي اليه بسهولة ما يريده. لكنني منذ البداية لم أرغب في أن أكون القناصة التي تخطف من حياة الناس صورا لعرضها بعيدا عنهم، بل في أن أنسج علاقة معهم عبر الصور، التي مع الوقت، أصبحت تشكل تذكارات وهدايا، تعينني شخصيا على الأمل والعمل والبقاء. إنهم أبطالي وجزء من سيرتي الشخصية. بعض الأحياء التي تظهر في صوري، مثل حي ماسبيرو، تبدلت وزالت معالمها اليوم. دور السينما، الأسواق، ضفاف الكورنيش، لم تبق نسخا طبق الأصل عما كانت عليه. لكن الحياة لم ولن تتوقف، فالبشر هم من يصنعون الأماكن، وصورها، وهم في كل مكان، من حولنا، يبحثون كل يوم عن تفاؤلهم وإرادتهم. ما زلت، كما كنت في العشرين من عمري، أحب أن أضيع في متاهات المدينة وأستلهم من ناسها شجاعتي".

صورة روجر أنيس من المصدر
رندا شعث

"ديك يصيح" في مختلف الاتجاهات

تلك الشجاعة هي ذاتها التي تسيطر على منطق مريم حلمي، واحدة من أفراد العائلة الذين يمتلكون البيت، الذي احتضن أيضا، اضافة إلى معرض شعث، معرضا جماعيا لمصورين مصريين وعرب من فلسطين والعراق ولبنان والأردن والمغرب باسم "سرد 4". تقول في لقاء خاص بـ"المجلة": "عاشت جدتي في هذا البيت وكبرت فيه. وفي طفولتي، كنت أستمع منها إلى الكثير من القصص عن عائلتها وذكرياتها معهم هناك، وكانت تشير إلى ذلك دوما بعبارة: كل ده كان بيحصل في بيت باب اللوق... وكبرت وتلك العبارة تتردد في رأسي، واسم المكان الذي يرمز إلى السرد والبهجة والطرائف. وحين بحثنا عن اسم للبناء بعد توضيب أجزاء منه ليحتضن أعمال الفنانين لم أجد أفضل من الاسم الذي اختارته جدتي: بيت باب اللوق. وها هو عاد اليوم إلى الحياة، والناس يدخلونه، ويتأملون الصور المعروضة في أرجائه، ويسألون عن تاريخه، وينشرون محتوى خاصا يمزج بين روحه وروحهم وروح الأعمال المعروضة، عبر الانطباع والحس والسرد، وهذا أمر يؤثر بي كثيرا".

تركز صور شعث على إرادة الانسان في مواجهة التحوّلات التي تنال من المكان الذي يعيش فيه وقدرته على إيجاد مسارب الأمل والبهجة في كل الظروف

وتضيف: "المباني مثل البشر، إذا توقفت عن التواصل انتهت. وعبر الفن، تتجلى أبهى صور التواصل بين الإنسان وروح الأماكن. نسعى ذات يوم إلى أن يعود المكان إلى أقصى إمكاناته وتتوفر لنا فرصة الترميم الكامل". بين وقت وآخر، تحب حلمي زيارة مكانها المفضل من البناء: "الشرفة التي تجعلني أطل على باب اللوق التاريخي، حيث أحاول استحضار صور عمرها مئة عام عن الحي الذي كان يضج بالأسواق وحركة عربات القطار".

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
بيت باب اللوق من الخارج

في "بيت باب اللوق" (نسخة 2025) حضر لبنان عبر صور فاطمة جمعة المعنونة "بين نفس ونفس". تلتقط الفنانة، بالتفاتة نادرة، حركة الجنوبيات بتدخين سكائرهن في لحظات عصيبة مرتبطة بالموت والخوف والارتحال، كما بالتحدي والإرادة، وما بينهما من تشتت وسهو عميق. تقول: "السيكارة هنا أكثر من عادة، بل هي مساحة للصمت والانتظار والنجاة من طوابير النزوح إلى توديع الشهداء، تظل السيكارة مشتعلة، تحترق كما تحترق الأعوام... فبين شهيق المعركة وزفير الدخان يرتفع السؤال: ماذا يبقى عندما ينطفئ كل شيء؟".

ومن الجنوب اللبناني إلى "حي الشجاعية" في غزة، حيث نضال رحمي، على مدى تسعة أعوام، يوازي تاريخ بتر فقدان أعضاء الجرحى مع فقدان الأمل في المدينة المصوبة عليها جحيم الحروب: "أردت أن أوثق اللحظات الصعبة أثناء جولات القصف العشوائي"، يقول.

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
صور اللبنانية فاطمة جمعة تحت عنوان "بين نفس ونفس" عن مدخنين في زمن الحرب في لبنان

"ديك البيت" تأتت له الفرصة ليصيح أخيرا، بفضل أعمال الفوتوغراف، بصراع الإنسان حين يتدخل مصيره الشخصي مع مصير المكان الذي يعيش فيه، أو مع ذلك الصوت الداخلي، الذي قد يدفع به إلى مواجهات خاسرة مع الاتزان، تؤدي به إلى عوالم الوهن، مثل إدمان المخدرات. في الغرفة التي احتلها المطبخ ذات يوم، تضفي صور المتعافين والمتألمين بالأبيض والأسود، المؤطرة على خلفية جدران مكسوة بقطع بورسلين توحي بالفراغ الثقيل، جوا من الرهبة على الفضاء الذي اختار الفنان شاغله عنوان "لقد كنت هناك". رغم اختلاف المعنى، يتقاطع عنوان المصري فارس زيتون، مع النوستالجيا الحارقة، التي يرمي بها المكان على زواره، لحقبة من الرسوخ والاتزان باتت، ربما، مفقودة. الحنين أيضا مادة للتعاطي، وقد تكون مسمومة: "لا أرغب في التحدث عن بيت باب اللوق في سياق أشباح الماضي والتواصل مع أرواح خفية، أريده استمرارا للواقع"، تقول حلمي. بينما توثق صور المدمنين التي عرضها زيتون مشروعه الممتد على مدى ثماني سنوات مما يسميه "البحث والانتكاس والتعافي"، لتكوين "أرشيف نسج بهدوء بين مراكز العلاج ومساكن التعافي. حيث عشت معهم، وتعاطيت معهم، وتعافيت وانتكست ودفنت بعضهم. هذه صور ليست عن الإدمان فقط، بل عن الألم والكرامة والخسارة ومحاولة البدء من جديد".

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
صورة من مجموعة رندا شعث معروضة في بيت باب اللوق

استوديو بدوي في الشوربجي

على مسافة كيلومترات قليلة من "بيت باب اللوق"، لا تزال "عمارة الشوربجي" تحتفظ برونقها المعماري الإنكليزي الذي صقل لأول مرة في العام 1910 بتوجيه من أربعة أشقاء يعملون في عالم التجارة، قبل أن تنتقل ملكيتها إلى عائلة سورية، ومن ثم يجري تأميمها في عهد الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر، لتستعاد لأصحابها وتباع لـ"الاسماعيلية" قبل فترة.

المباني مثل البشر، إذا توقفت عن التواصل انتهت. وعبر الفن، تتجلى أبهى صور التواصل بين الإنسان وروح الأماكن

مريم حلمي

يبدو البناء، الذي يحتل مساحة أكثر من ألفي متر مربع، وبارتفاع تسعة طوابق، مثل أحجية عصية على التفكيك، إذ أن مساربها تفتح، بغموض، باب الغوص في البحث التاريخي لفن العمارة وعلاقته بالناس، عبر ثلاثة مداخل من ثلاثة شوارع مختلفة، تطل عليها: عبد الخالق ثروت وعدلي ومحمد فريد.

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
عبد العزيز بدوي وأحمد ناجي المشتغلان على معرض استوديو بدوي

في الطابق الأعلى، يقف المصور الإسكندري الشاب عبد العزيز بدوي على مقربة من صورة رجل مهندم يرتدي ربطة عنق على سترة بيضاء مثل لون حذائه، وينظر، تحت قصة شعر مصففة بعناية، في اتجاه جانبي، عبر التفاتة حالمة وراضية، عن منجز ما، كأنه يتمنى أن يدوم إلى الأبد: "هذا أحمد بدوي مصوّر الإسكندرية على مدى عقود. ناسها وبحرها وشواطئها وحدائقها وميادينها. خفة روح أصحابها وتوقهم إلى البراح. انتماؤهم لمدينة عريقة وتأرجحهم بين الهويات. هذا جدي الذي ترك لنا مئات آلاف الصور عن روح مدينة، لطالما كانت في قلب التحولات السياسية والاجتماعية والحضارية في الشرق لعقود طويلة. واليوم، وعبر أسبوع القاهرة للصورة تتاح لنا فرصة عرض أعماله لجمهور العاصمة، في تجربة ثانية بعد تجربتنا في الإسكندرية"، يقول بفخر في لقاء خاص مع "المجلة"، بينما تحرك نسائم منتصف مايو/ أيار الطرية، القماشة التي طبعت عليها الصورة بأكبر من الحجم الطبيعي، وعلقت في الفسحة الخارجية لسطح الشقة التاريخية.

تزيد النسائم انتعاش مظهر "بدوي الكبير" الراحل، وإحساس حفيده، مع رفيقيه المصورين أحمد ناجي وحازم جودة. منذ اكتشافهم تلك الثروة الفنية في أقبية "استوديو بدوي" الشهير في منطقة "محطة باب الرمل"، لم يمل الشبان الثلاثة من عمليات الترميم والإنقاذ والعرض، والتشبيك مع مؤسسات ومعارض محلية ودولية لإتاحة الصور لجمهور المهتمين والباحثين وجامعي الوثائق: "نجحنا في عرض 350 صورة أصلية، أي أنه تم تظهيرها على يدي بدوي نفسه، العام الماضي في الإسكندرية، بينما نعرض هنا في القاهرة 120 صورة مولفة من النيغاتيفات لم تخرج إلى العلن من قبل"، يقول ناجي.

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
مظهر فني لصورة من أرشيف بدوي ساهم تلف النيغاتيف والاكسدة في منحها مظهرا مختلفا

في العام 1939، قرر الفتى أحمد بدوي أن يتعلم التصوير، عبر الانغماس في العمل داخل معامل تظهير النيغاتيف الملحقة باستوديهات المصورين من غير العرب التي كانت منتشرة في المدينة: "أرمن ويونانيون ويهود وإيطاليون وكثر غيرهم". وبعد عشر سنوات، تزامن افتتاح الاستوديو الخاص به، مع تسيد المشاعر القومية المصرية، التي  أسهمت في العام 1952 بالانقلاب على حكم السلالة الملكية التي لطالما اتخذت الإسكندرية مركزا رئيسا لها، ليبدأ بدوي في تحقيق "حلم جماهيري" في "مصرنة" مهنة التصوير الفوتوغرافي، وتوثيق حياة أهل البلد في انتقالهم الأول إلى "دنيا الجمهورية الجديدة". ومن هنا، نال شهرته في وسطه، كمصور المدينة وناسها، ووصل حجم جهده، بحسب حفيده، إلى تصوير مئات آلاف الصور على مدى أكثر من نصف قرن قضاها في ممارسة شغفه. يقول عبد العزيز: "في زمنه، لم تكن غاية الصورة فقط هي الجماليات. أمور كثيرة كانت الكاميرا وسيلة لتوثيقها: ضبطيات الشرطة، نسخ الوثائق، علميات تنمية حكومية... ومن هنا بوسعنا تفسير نشاطه الفائض وكمية الوثائق البصرية الهائلة التي تركها لنا على شكل صور".

نسعى إلى الموازنة بين مفهوم الصورة بالمعنى الكلاسيكي الفني، وبين المظلة الحديثة للمحتوى البصري الكامل الذي يضم اللقطة المتحركة والعناصر السماعية

مروة أبو ليلة

على لفافات ورق الجدران الأنيقة التي انتشرت، مع الكساء الخشبي النادر، بين غرف الشقة الأثرية، المعاد فتحها للجمهور بسبب المعرض، انتشر ما يقل عن 1% فقط، "مما تمكنا إلى اليوم من استعادته من أرشيف بدوي الضخم"، في توليفات راعت ثلاثة عناصر رئيسة: ندرة الحدث العام، أصالة النشاطات المدنية الجماعية، وحميمية الصور الشخصية. في الفئة الأولى، نشاهد صورا للجنازة الرمزية التشاركية التي أقيمت للرئيس الأسبق جمال عبد الناصر في الإسكندرية و"هي صور لم يعرض مثلها، على حد علمنا، في أي مكان قبل الآن". وتبرز صور معروضة من مجموعة حجمها 41 صورة بالابيض والأسود استظهرت من شريط 41 ملم جرى اكتشافه من قبل الشبان في قبو الاستوديو، مظاهر زفاف في أحد شوارع الإسكندرية توحي بالتنوع الاجتماعي الكبير للمدينة، وسمات سكانها في حب التشارك والانفتاح وعالم لا تسوده الصرامة. كذلك ظهر الإسكندريون في محاولات بدائية مبتكرة جربها بدوي، لتطوير عمله الفوتوغرافي وتطوير أفكار الصورة، مثل تطابق لقطتين في إطار واحد بطريقة يدوية معقدة، أو تلوين الصور، بينما لم يتوان حافظو الأرشيف عن تكبير وعرض صور نال منها التلف والأكسدة بسبب عوامل التخزين والرطوبة عبر مرور الزمن، باعتبارها "أعمالا فنية تضمّن الوقت لكي يضفي علاماته الأحفورية على ملامحها ويمنحها أبعادا اضافية غامضة وتجريدية بالإمكان فتح باب التخيل من أجل تأويلها في اللحظة الراهنة"، كما يشرح عبد العزيز في لقائه مع "المجلة".

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
من ارشيف بدوي، احتفال بالزفاف في مدينة الاسكندرية

انفتاح على العالم

تتصل طاقة الشبان الثلاثة وحماستهم للمساهمة في تصدير صورة جديدة عن التاريخ الحديث لمدينة الإسكندرية العريقة، بأحد الأهداف الرئيسة للحدث الأضخم في مصر والمنطقة العربية المتعلق بفن الصورة الفوتوغرافية، والذي تحدده أبو ليلة بالقول: "نسعى إلى الموازنة بين مفهوم الصورة بالمعنى الكلاسيكي الفني، وبين المظلة الحديثة للمحتوى البصري الكامل الذي يضم اللقطة المتحركة والعناصر السماعية، من دون أن نفقد ولاءنا للفوتوغراف ووظائفه الأصلية وفنياته... هذا أمر جاذب للشباب".

الشباب لم يأتوا الى وسط العاصمة من الإسكندرية فقط، بل، هذا العام، ولأول مرة، من أسوان وقنا وسوهاج وبورسعيد وشمال سيناء والبحر الأحمر وغيرها: "أمنّا وصول وإقامة 19 شابا وشابة مشتغلين في التصوير من 14 محافظة وطوال أيام الحدث... إنهم لأول مرة على تماس مع خبراء التصوير في العالم وملهميه الكبار من مصر".

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
ملصق الدورة الرابعة من أسبوع القاهرة للصورة على مبنى "سينما راديو" العريق وسط القاهرة

على الحدود العالمية المحفزة، تبرز مشاركات لافتة في "القاهرة للصورة" في دورته الرابعة، من قبل مؤسسات دولية ذات باع في هذا المجال مثل "فوغ" و"ناشونال جيوغرافيك" و"مؤسسة صور الصحافة العالمية" و"صور غيتي" وغيرها، بينما يستعيد "وسط البلد" علاقاته التاريخية مع التأثيرات الاجنبية، عبر شراكات دعم متنوعة حظي بها "الأسبوع" من السفارات الهولندية والإيطالية والإسبانية والفرنسية والسويسرية والدنماركية والمركز الثقافي البريطاني والاتحاد الأوروبي. أما على حدود الإلهام المحلية، فيبرز اسم المصور والأكاديمي العراقي الأصل الراحل ياسر علوان الذي أقام ودرّس في القاهرة لأكثر من 30 عاما، والتقطت عدسته أحاسيس غامرة بالمحلية والصدق لأطياف من الشعب المصري في مواقع تصوير غير تقليدية مثل المحاجر ونوادي الرهان على سبق الخيول.

حاول علوان أن يطارد روح القاهرة في بداية حداثتها المعاصرة، فزار  مئات الأسواق الشعبية وبائعي الكتب في القاهرة، حيث اشترى مطبوعات وأفلاما فوتوغرافية قديمة

حظيت صور علوان بشهرة عالمية، ورسخت قيمتها في مجال فن البورتريه غير التقليدي إضافة الى مجال البحوث الاجتماعية عبر الصورة، وهو ما أظهرته الاستعادة الاحتفائية بأعمال له، انتشرت في مكانين في شارع "حسين باشا المعماري" خلف البناء التاريخي لسينما ومسرح "راديو" المعاد ترميمه.

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
بيت باب اللوق الأثري يفتح خصيصا بعد عقود لاستضافة معارض أسبوع القاهرة للصورة

عودة الديناصور

حمل المعرض اسم "الديناصور" وتضمن أكثر من 30 صورة مثلت جزءا من أرشيف علوان، "وهو صاحب مدرسة خاصة في التصوير الفوتوغرافي، إذ كان يصوّر بكاميرات أنالوغ، بالأبيض والأسود"، كما تقول نادية منير، منسقة هذا المعرض، وتضيف: "ركزنا على أربع أفكار رئيسة تحت كل منها مجموعة تمثلها، فهناك مجموعة مراهنات سباق الخيل التي كان مهتم بتصويرها، والمجموعة الثانية هي صور العمال في الشارع وأصحاب المهن الخاصة في القاهرة مثل عمال المحاجر والمدابغ، وتضم المجموعة الثالثة مشاهد من شوارع القاهرة، أما المجموعة الرابعة فهي شديدة التميز وغير معتادة في المعارض وتضم مجموعة صور للأصدقاء والعائلة والذين كانت تجمعهم بالفنان ياسر علوان علاقة وطيدة وهي بذلك ترتبط بفكرة المعرض بشكل كبير لأنها تظهر الحب والتقدير الدائم الذي يجمع بين الأهل والأصدقاء مهما مر الوقت وكيف استطاع ياسر علوان أن يُشرك كل من حوله في عالمه الخاص بالتصوير".

أطلق أطفال أصدقاء ياسر علوان عليه لقب "الديناصور" لأنه اعتاد أن يلعب معهم لعبة خاصة، يجعل خلالها نفسه مثل الديناصور الكبير الذي يجري خلف الديناصورات الصغيرة ويحاول الإمساك بها. وخلال حياته، حاول علوان أن يطارد روح القاهرة في بداية حداثتها المعاصرة، فزار  مئات الأسواق الشعبية وبائعي الكتب في القاهرة، حيث اشترى مطبوعات وأفلاما فوتوغرافية قديمة تعود غالبيتها إلى عشرينات وثلاثينات وأربعينات القرن الماضي، شكّل منها مجموعة صور قدمت طيفا واسعا للحياة اليومية في مصر خلال العقود التي سبقت ثورة 1952، وهي المجموعة التي أطلق عليها اسم "عكاسة"، قبل أن يفارق الحياة في العام 2022.

تصوير ابراهيم توتونجي للمجلة
من معرض فارس زيتون في بيت باب اللوق ضمن سرد 4 خلال اسبوع القاهرة للصورة

يلتقط شاب يحمل كاميرا غير رقمية صورا لبورتريهات "الديناصور" الخاصة بالعمال وسط الصخور المحفرة قبل أن يعبر من أمام "الخن"، المختفي بعالمه الموازي وسط عالم الاحتفاء الابداعي، ليلتقط صورة أخرى للجدار الذي يستند إليه رواد المقهى والمزين ببورتريهات غرافيتي تجسد مطربين مهمين في تاريخ الموسيقى العربية والشرقية أمثال محمد عبد الوهاب وأم كلثوم وعبد الحليم حافظ قبل ان يصعد سلالم المبنى ذاته وصولا إلى "معرض صاحبة الجلالة"، حيث يلتقط صورا أخرى نادرة لرؤساء وقادة ومشاهير في تاريخ مصر على امتداد مئة عام. هناك أيضا ترتفع لافتة ضخمة معلقة على الجدار تحمل اسماء مصورين فلسطينيين مع عبارة "هؤلاء قتلتهم الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي". على جدار قريب صورة نادرة لسيدة الشاشة العربية فاتن حمامة تتضامن مع مشاعر أحد جرحى الحروب الذي يفك ضمادة غطت عينيه لكي يتمكن من رؤية ابتسامتها الساحرة.

font change