عقوبات الاتحاد الأوروبي... اختبار للقيادة السورية

عقوبات الاتحاد الأوروبي... اختبار للقيادة السورية

استمع إلى المقال دقيقة

ما زال السوريون يحتفلون بإعلان الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رفع جميع العقوبات عن بلادهم يحدوهم الأمل في أن تضع هذه الخطوة البلاد أخيرا على سكة التعافي، غير أن كفاح البلاد مع التدابير العقابية لم ينته بعد.

وخلافا لقرار واشنطن المباشر نسبيا، كان نهج الاتحاد الأوروبي متعدد الجوانب. فإلى جانب رفع القيود الاقتصادية، فرض "الاتحاد"، المكون من 27 دولة، عقوبات جديدة على ثلاث ميليشيات سورية واثنين من قادتها، ردا على الانتهاكات التي ارتكبت بحق العلويين خلال موجة العنف الطائفي في مارس/آذار.

وبما أن هذه المجموعات والأفراد تنضوي اليوم- اسميا على الأقل- تحت راية وزارة الدفاع، فالحكومة الانتقالية لم يعد بإمكانها الاستناد إلى الحجة القائلة بأنه لا ينبغي محاسبة تلك المجموعات على الانتهاكات التي ارتكبتها في عهد النظام السابق، ذلك أن العقوبات موجهة ضد ممارساتها الحالية.

السؤال المطروح الآن هو كيف ستستجيب السلطات الانتقالية؟ هل ستتجاهل هذه الاتهامات، أم تسعى إلى التقليل من شأنها، أم تعالجها بشكل مباشر عبر فتح تحقيقات واتخاذ الإجراءات اللازمة، سواء من خلال محاسبة المتورطين أو دحض الاتهامات بأسلوب يرسخ المصداقية؟

تعيش الحكومة الانتقالية لحظة فارقة وعليها أن تختار بين فرض سيادة القانون، حتى لو طال حلفاءها، أو الاستمرار في العمل في مناطق رمادية قانونية مما يهدد بعرقلة تعافي سوريا الهش وانتقالها السياسي.

وقد أوضح الاتحاد الأوروبي أن رفع العقوبات الاقتصادية لا يعني إغفال العدالة. بل على العكس، أكد مسؤولو الاتحاد التزامهم بدعم توحيد سوريا وبناء دولة عادلة وشاملة وسلمية، قائمة على المساءلة عن جميع الجرائم وانتهاكات الحقوق.

بدأ العنف في المناطق الساحلية بهجمات منسقة شنتها فلول النظام السابق، لكن الحملات الانتقامية التي أعقبت تلك الهجمات تطورت إلى أعمال عنف عشوائية

واستنادا إلى هذه المبادئ، فرض الاتحاد الأوروبي عقوبات محددة على ثلاثة فصائل موالية لتركيا: لواء السلطان سليمان شاه، وفرقة الحمزة، وفرقة السلطان مراد. ثمة مزاعم أن جميعهم متورطون في هجمات على المدنيين. كما فرضت عقوبات على قائدي هذه الفصائل، محمد الجاسم (أبو عمشة) وسيف بولاد أبو بكر، لإدارتهما عمليات أدت إلى انتهاكات واسعة النطاق.

بدأ العنف في المناطق الساحلية بهجمات منسقة شنتها فلول النظام السابق، لكن الحملات الانتقامية التي أعقبت تلك الهجمات تطورت إلى أعمال عنف عشوائية، شملت إعدامات ميدانية وتعذيبا وقتلا تعسفيا. وأشارت التقارير إلى مقتل أكثر من 1700 شخص، معظمهم مدنيون من الطائفة العلوية.

وقد كانت هذه الفصائل الخاضعة للعقوبات تعمل في السابق تحت مظلة الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا في شمال سوريا، لكنها اندمجت رسميا في وزارة الدفاع السورية المشكلة حديثا في ديسمبر/كانون الأول. نظريا، انحلّت هذه الجماعات وأُعيدت هيكلتها تحت إشراف الوزارة. فأصبح لواء سليمان شاه جزءا من الفرقة 25، ولا يزال بقيادة أبو عمشة. وبالمثل، اندمجت فرقة الحمزة في الفرقة 76، بقيادة سيف بولاد أبو بكر.

أما على أرض الواقع فلم نلمس سوى القليل من التغيير. وتشير التقارير إلى أن الهياكل الداخلية لهذه الفصائل حافظت على بنيتها دون أن يطالها تغيير يذكر، وأن قادتها ما زالوا يمارسون نفوذا كبيرا على مقاتليهم.

هذا الواقع يجعل عقوبات الاتحاد الأوروبي الأخيرة أكثر قابلية للتطبيق على كل من الفصائل والقادة الرئيسين المرتبطين بها. غير أنه، من ناحية أخرى، يعقّد جهود التنسيق والدعم الدولي للجهاز العسكري الجديد، لا سيما بالنسبة للاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء.

إذا أثبت تحقيق شامل ومستقل عدم تورط الفصائل والقادة الذين استهدفتهم العقوبات، فسيخرج الشرع منتصرا، بعد أن حافظ على سيادة القانون ودافع عن قادته ضد ما سيثبت لاحقا أنها اتهامات لا أساس لها

بالنسبة للسلطات الانتقالية، لن تشكل عقوبات الاتحاد الأوروبي تحديا إلا إذا اختارت تجاهلها، أما إذا تعاملت معها بجدية، فسوف تتيح لها فرصة حقيقية. وقد اعترف الرئيس المؤقت الشرع بالفعل بوقوع انتهاكات في الساحل في مارس، وأطلق لجنة لتقصي الحقائق للتحقيق ومحاسبة المسؤولين. والخطوة المنطقية التالية هي أن تنسق هذه اللجنة مع الاتحاد الأوروبي ومنظمات حقوق الإنسان- المحلية والدولية- لمراجعة الأدلة المتاحة وضمان الشفافية، ما يضعنا أمام اثنين من السيناريوهات: 
إذا أثبت تحقيق شامل ومستقل عدم تورط الفصائل والقادة الذين استهدفتهم العقوبات، فسيخرج الشرع منتصرا، بعد أن حافظ على سيادة القانون ودافع عن قادته ضد ما سيثبت لاحقا أنها اتهامات لا أساس لها. وهذا سوف يعزز موقفه دون أي تكلفة سياسية حقيقية.
أما إذا أكد التحقيق تورط هؤلاء القادة والفصائل فسوف يجني الفوائد أيضا. إذ ستوفر هذه النتائج المبرر القانوني والسياسي لحل تلك المجموعات في الجيش الوطني بشكل حقيقي ومحاسبة الأفراد المتورطين. الأمر الذي يسمح للشرع بإقصاء الشخصيات المثيرة للجدل بموجب تفويض واضح وشرعي- بغض النظر عن الصفقات السياسية التي أوصلتهم إلى السلطة في الأصل. 
إن الانحياز للقرار الصائب هنا ليس مجرد انتصار شخصي للشرع، بل هو خطوة ضرورية نحو تعافي سوريا واستقرارها على المدى الطويل. فالمساءلة لا تتعلق بما هو مريح فحسب، بل تقوم على ترسيخ المعايير. وعندما تضع الحكومة الانتقالية العدالة فوق المصالح الشخصية، فإنها تبعث برسالة واضحة مفادها أن الإفلات من العقاب لن يكون مقبولا بعد الآن، بغض النظر عن الانتماءات. وهذا بالتحديد- أكثر من أي خطاب أو رفع للعقوبات- هو ما يشير إلى بداية فصل جديد في تاريخ سوريا.

font change