مرصد الأفلام... جولة على أحدث عروض السينما العربية والعالمية

مرصد الأفلام... جولة على أحدث عروض السينما العربية والعالمية

نتعرف من خلال هذه الزاوية إلى أحدث إنتاجات السينما العربية والعالمية، ونسعى إلى أن تكون هذه الزاوية التي تطل شهريا، دليلا يجمع بين العرض والنقد لجديد الشاشة الكبيرة، على أن تتناول الأفلام الجماهيرية والفنية، من الأنواع كافة، بالإضافة إلى إعادة تقديم فيلم من ذاكرة السينما الكلاسيكية.

المشروع X

تأليف: بيتر ميمي وأحمد حسني

إخراج: بيتر ميمي

بلد الإنتاج: مصر

هذا فيلم يسهل توقع نجاحه في شباك التذاكر. يلعب الدور الرئيس فيه أحد أكثر النجوم شعبية في السينما المصرية التجارية خلال الفترة الأخيرة، كريم عبد العزيز، وبإدارة المخرج بيتر ميمي، شريك نجاح كريم الفني منذ سنوات. يتقدم "المشروع x" كأحد أفلام الميزانية الكبيرة، وبالتالي من المتوقع أن تتحقق فيه مشاهد الأكشن بقدر من الإتقان الذي يحاكي الأعمال الهوليوودية.

مثل هذه الأفلام، لا يركز كثيرا على الدراما ولا يولي اهتماما برسم الشخصيات، بقدر اهتمامه بصناعة التشويق، عبر مونتاج لاهث، وحركة في الزمن وعلى الأرض

ينهج الفيلم نهج أفلام إثارة من نوع "شيفرة دافنشي"، إذ ثمة لغز في مكان شبه مقدس، مفتاحه متوزع بين أكثر من بلد، وبين أكثر من جماعة. صحيح أن مثل هذه الأفلام، لا يركز كثيرا على الدراما ولا يولي اهتماما برسم الشخصيات، بقدر اهتمامه بصناعة التشويق، عبر مونتاج لاهث، وحركة في الزمن وعلى الأرض، غير أن نقاط القوة تلك، لا تحضر في "المشروع x"، على العكس ربما تبدو الصورة التي يقدمها بيتر ميمي ومعه مدير التصوير حسين عسر والإضاءة، الصورة الحلوة أكثر منها المبهرة، هي ما تجعل مشاهدة الفيلم ممتعة في المقام الأول.

ملصق "المشروع X"

يركز السيناريو على محاولة فك لغز ما يتعلق بالهرم الأكبر، لكن الرحلة للإمساك بخيط هذا اللغز، تبدأ من عند يوسف الجمال – كريم عبد العزيز، وهو شخص اتهم بقتل زوجته، وفقد وظيفته وأودع في مستشفى الأمراض العقلية، انتقاما منه على بحثه الفردي عن الحقيقة بعيدا عن الجماعة التي كان ينتمي إليها، ثم اكتشف لاحقا تلاعبها وزيفها. بالطبع لا يخلو الفيلم من رسائل سياسية، لكن مشكلته على المستوى الدرامي تكمن في صعوبة صوغ سؤال واضح عن طبيعة مهمة يوسف الجمال، أو أدوار الأشخاص المتعاونين معه. إن وضعنا هذه الأسئلة جانبا، ربما نجحنا في الاكتفاء متعة بالصورة، وبموسيقى أمين بو حافة، وبعض الأداءات المميزة لضيوف الشرف. إن بيتر ميمي، بلا شك، مخرج ذكي يطور أدواته من عمل إلى آخر. تشهد اللقطة التي يبتسم فيها بطله قرب نهاية الفيلم، تزامنا مع تصفيق الجمهور المحب لنجمه في صالة السينما، على حدس فني خاص. ربما فقط يحتاج مثل المخرج الكبير شريف عرفة في أفلامه الأخيرة، إلى أن يترك حرفة السيناريو إلى أصحابها ويركز على العمل الإخراجي الصعب.  

Hurry up tomorrow

تأليف: رزا فهيم، وتري إدوارد شالتس، وذا ويكند

إخراج: تري إدوارد شالتس

بلد الإنتاج: الولايات المتحدة

من اسم إحدى أغنيات المغني الشهير "ذا ويكند"، يستعير هذا الفيلم عنوانه، الذي يمكن تأويله بالأمل في الغد، مقارنة بنهاية العالم الشخصية جدا التي يستعرضها لبطله آبل تسفاي. منذ اللقطات الأولى في الفيلم، يعلن المخرج تري إدوارد شالتس عن أسلوب سينمائي خاص وممتع، يتصف بالحيوية، ويتجسد منذ البدء في حركة كاميرا تحيط بجسد شخصية آنيما – تؤدي دورها جين أورتيغا – وهي تحرق منزلا، وتنسف ذكريات، لا نعرف إلى من تنتمي. بالتوازي، نشاهد الانهيار البطيء للمغني آبل، الذي تهجره حبيبته في ظروف درامية، وهو مهدد بفقدان صوته.

ملصق Hurry Up Tomorrow

تستغرق هذه المقدمة زمنا، وترسم لوحة للعالم البصري والنفسي الذي يقدمه الفيلم. هو عالم من الليل بالمعنى الحرفي والنفسي، لأن حياة آبل يقع معظمها ليلا، بين حفلاته وسهراته، وتعاطيه المخدرات، مع أرقه وكوابيسه، وعلاقته بمدير أعماله وصديقه لي – يؤدي دوره باري كيوغان – الذي يضغط عليه باستمرار كي لا يستسلم لانهياره، كي يواصل جولاته، وكي يقدر بشكل أفضل هذا النجاح المنقطع النظير الذي يحصده، مقابل إخفاقه العاطفي.

يجبرنا هذا الفيلم على الانغماس في حالة من التأمل الكابوسية، وجائز أن تردنا أيضا إلى صدمات طفولتنا

سوى أن هذا الإخفاق العاطفي يضرب بجذوره في ماض أبعد. في علاقته بأبويه، التي تعبر عنها كلمات أغنياته، وربما أيضا في ما لا نعرف ولا يبوح به الفيلم. يركز السيناريو على الحاضر فقط، وإن كان يبقينا على صلة بنبض الألم الذي يجعل المطرب على هذه الهشاشة. مع ظهور آنيما، في حفلة لآبل، تنقلب حياته رأسا على عقب. فهي شابة حساسة، تحفظ أغنياته، تعرفه بشدة، وتقرر أن تعلمه الدروس التي لا يريد أن يتعلمها. قد يكون سلوكه السام، وراء بؤسه العاطفي. لكنها في سبيل ذلك، تحدث الكثير من الدمار في حياة من حوله، وفي حياته هو شخصيا.

تقف سردية الفيلم على مسافة واحدة من جميع الأطراف، وتعطي صوتا لآنيما كي لا تبدو مختلة، أو مجنونة تماما، مع أن أفعالها كما نشاهدها تقول العكس. يجبرنا هذا الفيلم على الانغماس في حالة من التأمل الكابوسية، وجائز أن تردنا أيضا إلى صدمات طفولتنا. ربما يعيبه فقط انغلاقه في ربعه الأخير على شخص النجم آبل، وأمراضه، ونرجسيته الزائدة، كأن مخرجه يتخلى طوعا عن الاحتمالات السينمائية الكبيرة التي وعدنا بها في البداية، لائذا بنجومية مطربه الشهير ذا ويكند أو آبل تسفاي.

عنوان الفيلم: Deaf president now!

إخراج: نايل ديماركو، ودافيس غيغنهايم

بلد الإنتاج: الولايات المتحدة

يروي الفيلم الوثائقي "نريد رئيسا أصم" – من إنتاجات آبل الأصلية – وقائع أسبوع من ربيع عام 1988، في جامعة غالوديت الأميركية – الجامعة الوحيدة للصم في العالم، حين انتفض الطلاب المعترضون ضد تعيين رئيسة للجامعة ليست فقط من خارج هذا المجتمع، بل جاهلة بقواعده ولغته كذلك، ولا تخجل من إعلان ازدرائها لمجتمع الصم، وتصريحها بعجزهم عن التكيف مع مجتمع السامعين. كانت جين سبيلمان ببساطة متحيزة ضد الطلاب الصم. وكان يمكن هذا التعيين لو قبلوه أن يكسر إرادتهم وثقتهم في العالم.

من بين ما يرينا الفيلم إياه أن النظرة إلى هؤلاء بصفتهم أشخاصا ناقصين يحتاجون إلى المساعدة، ليست فقط جارحة، إنما بالتأكيد جاهلة

يركز الفيلم على مجموعة من الطلبة المتمردين آنذاك، الذين يجلسون اليوم أمام الكاميرا، ويتذكرون أيام هذا الأسبوع بالتفصيل. دخلوا المعركة بوعي وقوة وقدرة على القيادة، إنما أيضا بخفة ظل وروح مرحة. هم الذين سيأخذون بأيدينا كمتفرجين، كي نشهد معهم وقائع هذا الأسبوع الفارق. وهم الذين يرشدوننا أيضا إلى عالمهم، إلى حرارته وذكائه وتوقده. إلى ماضيهم، وحياتهم الأولى، وما قيل لهم عن الاختلاط بمجتمع غير الصم.

ملصق Deaf President Now!

يبدع صانعا هذا الفيلم في استخدام أدوات السينما كافة، لإدخالنا تحت جلودهم. عن طريق كتم الصوت أحيانا، تسييد الصمت، استقبال الاهتزازات والذبذبات ومحاولة تفسيرها، وطبعا بمعونة الأضواء والألوان. نراهم أمامنا يعبرون بوجوههم وأيديهم، بكل ما فيهم، عما يريدون قوله عن تلك اللحظة التاريخية. مما يجعل مشاهدة هذا الفيلم، تجربة معايشة لحساسية مختلفة وخاصة، إبداعيا وإنسانيا.

يتفوق الفيلم بإيقاعه أيضا، المستعار من الإيقاع الذي تعيش به الجماعة حياتها وثورتها. يقول أحدهم: "ليس احتجاجا بل كانت ثورة". أما السؤال الذي قد يبدو منطقيا لنا: لماذا الإصرار على تعيين رئيس أو رئيسة من الصم؟ فيجيب عنه الفيلم بتدرج. لم يكن تمردا حبا في التمرد، كان تمردا يتعلق بالوجود. وسط مجتمع رافض لغير السامعين، مثلت جامعة غالوديت بيتا حقيقيا للطلاب، ولم يكن ممكنا بعد ذلك، أن يتقهقر الطلاب مجددا إلى غربة الاستبعاد والتهميش. من بين ما يرينا الفيلم إياه أن النظرة إلى هؤلاء بصفتهم أشخاصا ناقصين يحتاجون إلى المساعدة، ليست فقط جارحة، إنما بالتأكيد جاهلة بأنواع السمع وأشكال التفاعل واللغة وأساليب الحياة والفكر المتعددة. فيلم جميل، يبلغ درجة فريدة من الكمال في التعبير السينمائي وهو يوصل رسالته.

عنوان الفيلم: The Surrender

تأليف وإخراج: جوليا ماكس

بلد الإنتاج: كندا، والولايات المتحدة

يحمل عنوان هذا الفيلم "التسليم" دلالة مزدوجة، أولا التسليم الذي ينبغي أن تختبره الأم باربار وابنتها ميغان أثناء ممارسة الطقس السحري للفودو، والذي يفترض منه أن يعيد الزوج الميت روبرت والد ميغان من الموت. لكن الدلالة الأهم للعنوان، تتعلق بحتمية التسليم بمسألة أخرى، التسليم بمرور الموت من الحياة، ومرور الحياة من الموت، وألا غنى لأحدهما عن الآخر. في فيلمها الروائي الطويل الأول، تعود صانعة السينما جوليا ماكس إلى موضوع كانت تناولته من قبل في فيلمها القصير "أجزاء مني" Pieces of me الذي بحث في قوة الذكريات العائلية، وطرح بدوره فكرة الموت ولو فانتازيا، عبر تحويره بحيث يخدم الحي ويعوض نقصه الإنساني.

ربما تبدو قصة "التسليم" مرتبكة في بعض أجزائها، متشبعة بحوارات زائدة، وبإيقاع لم يحسن المونتاج ضبطه تماما، غير أنه يبقى تجربة بصرية ونفسية مختلفة

هنا يركز "التسليم" الذي يعد أحد أفلام الميزانية المحدودة، على الفقدان التدريجي للأب روبرت، وما يثيره هذا الاحتضار من ذكريات أليمة أو محببة عند كل من الأم والابنة. إنهما تعيشان هذا الفقد، وحيدتين، ومنعزلتين عن العالم الخارجي، مما يعطي الفيلم بعدا مسرحيا، بتمحوره حول سرير الأب روبرت، وفي غرفته، وفي شبه امتناع البطلتين عن التفاعل مع الناس الآخرين، أو الحلم أو التفكير في المستقبل. يتضح أن قسما كبيرا من هذا التعلق، هو آلية إنكار للحقيقة. حقيقة العلاقة غير الصحية التي دامت بين روبرت وباربار أربعين عاما، لا الحب الذي تتصوره الابنة ميغان. وحقيقة العلاقة الصعبة التي تربط ميغان لا سيما بوالدتها.

ملصق The Surrender

من المفترض أن طقس الفودو الذي يغذي حبكة الرعب في "التسليم"، هو أيضا مركز الحكاية، ومع ذلك فإن النصف الأول من الفيلم يبدو جذابا ومتقنا أكثر، حيث التركيز على الدراما العائلية، وطبيعة العلاقة بين الأم والابنة. لا يعني هذا أن الطقس السحري المرعب عدم فائدته، بل كان هو الزمن النفسي الذي فيه تضطر ميغان إلى مواجهة حقيقية أبويها، وبالتالي التسليم أخيرا ولو بعد فوات الأوان بكل ما رفضته في العالم الحقيقي. ربما تبدو قصة "التسليم" مرتبكة في بعض أجزائها، متشبعة بحوارات زائدة، وبإيقاع لم يحسن المونتاج ضبطه تماما. غير أنه يبقى تجربة بصرية ونفسية مختلفة، وربما مبشرا بأفلام قادمة أكثر نضجا لمخرجته.

عنوان الفيلم: Cloud

تأليف وإخراج: كيوشي كوروساوا

بلد الإنتاج: اليابان

يروي الفيلم قصة صعود ريوسوكي، موظف في مصنع، إلى عالم رواد الأعمال الذين يستخدمون الإنترنت لبناء إمبراطورية افتراضية، تجلب لهم ثروة. يؤمن ريوسوكي بنفسه، بإمكاناته، لكنه لا يعلن هذا الإيمان ولا يستعرضه إنما يختبره خطوة خطوة عبر مسار الفيلم. هدفه، مثله مثل أي شاب من أبناء جيله، لا في اليابان وحدها لكن في العالم أيضا، أن يجمع مالا كثيرا، أن ينشئ بيتا على مزاجه، وأن يتخلص من حياة الموظفين إلى الأبد، وأوامر المديرين.

الرعب يقع في سؤال النهاية، حين يوجهه المشاهد إلى نفسه: منْ منا الشرير حقا؟

سوى أن سبيله الى ذلك، يمر على نوع من الاحتيال. إنه يشتري البضائع من أصحابها بثمن بخس، ثم يعيد بيعها بأسعار خيالية. لا مانع لديه من بيع الأغراض المزورة على أنها حقيقية، وبأسعار مبالغ فيها حتى. إنه تاجر، بل تاجر ثعلب. لا يثق بأحد، وفي الوقت نفسه يجيد استغلال ثقة الناس في الشبكة العنكبوتية، في الـ "كلاود" حسب عنوان الفيلم، تلك السحابة التي لا يعرف لها أحد مكانا. إنهم يثقون أنها هناك، ويعتقدون في قدرتها على التأثير إيجابا على حياتهم الحقيقية.

ملصق فيلم Cloud

مخرج الفيلم الياباني كيوشي كوروساوا، أحد الأعلام المعاصرين لـ J-Horror نوع السينما الياباني الشهير باللعب على الرعب النفسي، يؤسس بصريا لعالم ريوسوكي، الذي يقوم تقريبا على اقتصاد شديد، وعلى سراب. مساحات فارغة، كراتين، ماكينة القهوة التي ستصاب في معركة قادمة لا محالة برصاص غادر. هذا العالم كله، هو الذي سيحتضن مشهد الصراع/ الجريمة، حين سيتسلل شخص مجهول الهوية إلى بيت التاجر، بعد تعقبه على الإنترنت للانتقام منه، مما ينقل الفيلم إلى خانة الأكشن.

في حواره مع مجلة "كاييه دو سينما" الشهر الفائت، يتحدث كيوشي عن العنف: "تدور أفلامي في اليابان المعاصرة، والبيئة التي تتطور فيها شخصياتي، بيئة عادية جدا. الجريمة هي هذا الانقلاب الذي يسمح باصطحاب المتفرج إلى الخيال. طبعا هي غير مقبولة من الناحية الأخلاقية، لكنها عندي وسيط جيد، هي الحد الفاصل بين الواقع والخيال".

هذا عن الجريمة والعنف، أما ما يجعل "كلاود" فيلم رعب كما يصنفه صاحبه، فلعله دهاء ريوسوكي، شطارته في الربح من عالم سائل، وفي انتصاره، إن كنا نصف أفعاله بالشريرة، في نهاية الأمر. الرعب يقع في سؤال النهاية، حين يوجهه المشاهد إلى نفسه: منْ منا الشرير حقا؟ ذلك الذي يكشف الكذبة ويطالب بالقصاص، أم ذلك الذي يدافع عن نفسه وعن صديقه المحتال ببسالة إلى آخر نفس؟

من ذاكرة السينما

Le Chagrin et la pitié

إخراج: مارسيل أوفليس

بلد الإنتاج: فرنسا، سويسرا، ألمانيا

نتذكر الفيلم التسجيلي "الأسى والعطف" Le Chagrin et la pitié الذي عرض للمرة الأولى عام 1969، للمخرج الفرنسي الألماني مارسيل أوفليس، لمناسبة رحيله عن الدنيا الأسبوع الماضي، في منزله في جنوب غرب فرنسا، عن عمر يناهز 97 عاما. كما نتطرق قليلا إلى مسيرة صانع السينما المؤثر.

يرحل مارسيل أوفليس، ونتذكر مسيرته السينمائية، هو الذي كان يرى في مطلع شبابه، أن السينما اختراع لن يصمد إلى نهاية القرن

يوم 24 مايو/ أيار الماضي، أعلنت في فرنسا وفاة مارسيل أوفليس، أحد أعلام السينما الوثائقية حول العالم. نعته صحيفة لوموند قائلة: "مات عالم كامل معه"، متذكرة فيلمه الأشهر "الأسى والعطف" Le Chagrin et la pitié. كان ظهور الفيلم صفعة للسردية الفرنسية التي بيضت وجه فرنسا إثر تعاون نظام بيتان مع هتلر، خلال الاحتلال النازي لفرنسا. تقول لوموند: "كشف مارسيل أوفليس بفيلمه، أن التعاون مع النازي، لم يكن شرا لا بد منه كما راج بعد الحرب، إنما خيارا أيديولوجيا لليمين الرجعي والمعادي لليهود في فرنسا".

ولد مارسيل في ألمانيا يوم 1 نوفمبر/ تشرين الثاني 1927 لمخرج ألماني يهودي شهير هو ماكس أوفليس، وأم ممثلة. بعد صعود هتلر إلى السلطة، ومارسيل في عمر الخامسة، اضطرت الأسرة إلى الهجرة إلى فرنسا، لكن القوات النازية ظلت تتعقبها، حتى هاجرت إلى الولايات المتحدة. لم تحسن هوليوود استقبال الأب السينمائي، لتعود الأسرة مجددا بعد الحرب إلى فرنسا وتستقر هناك. في بداية مسيرته، ينجز الابن مارسيل بضعة أفلام روائية، أحدها بدعم من فرنسوا تروفو. لكن آخر أفلامه الروائية يلقى فشلا ذريعا، ويضطر إلى التوقف عن صنعها والتحول إلى السينما الوثائقية.

سوى أنه لم يفقد حبه للنوع الروائي، بل أخذ منه بعض السمات التي سيضيفها إلى أفلامه الوثائقية لاحقا، ضاربا بعرض الحائط أسطورة الموضوعية في السينما التسجيلية. عام 1969، يتعاون مع اثنين من الصحافيين الفرنسيين هما آندريا هاريس، والآن دو سيدي، وخلال خمسة أسابيع يعمل على تصورير "الأسى والعطف" بدعم مالي من سويسرا وألمانيا، وبالأبيض والأسود، ليبلغ طول الفيلم في النهاية أربع ساعات ونصف الساعة، ويصدر في جزءين وبعنوان فرعي على الشاشة: "يوميات مدينة فرنسية تحت الاحتلال".

إضافة إلى مونتاجه الحاد، وتسجيله شهادات عن تلك الحقبة ممن عاشوا مرحلة التعاون مع النازي من بورجوازيين فرنسيين، فلاحين، صيادلة، مقاومين، شيوعيين، مؤيدين لديغول، مؤيدين لبيتان، لم يكتف مارسيل بموقعه خلف الكاميرا. أشرك نفسه في الحوارات، تجادل بتهذيب مع أصحاب الشهادات، معيدا في الكثير من الأحيان صوغ مواقفهم وخطاباتهم بطريقة صريحة وصادمة، ووجدوا أنفسهم في النهاية مضطرين الى الموافقة عليها.

بعد عام واحد من حركة الطلاب عام 1968، جاء "الأسى والعطف" كإيذان بعصر جديد، طالب فيه الشباب بالحقيقة غير المجملة، وأجبروا الساسة على الاعتراف بشيء منها. بعض المعلقين يرون أن الفيلم لا يحمل أي عطف، فقط أسى. لكن الثابت أنه أيضا يعد مرجعا مهما في السينما الوثائقية. اليوم يرحل مارسيل أوفليس، ونتذكر مسيرته السينمائية، هو الذي كان يرى في مطلع شبابه، أن السينما اختراع لن يصمد إلى نهاية القرن.

   

   

font change