بينما تتابع وسائل الإعلام الإقليمية والدولية جولات التفاوض بين الولايات المتحدة وإيران، والمُتفق سلفا على كونها محادثات بشأن ما يجب على إيران التنازل عنه في قطاعَي برنامجها النووي وأسلحتها الباليستية، يتذكّر المرء تصريح رئيس لجنة الصحة والعلاج في البرلمان الإيراني حسين علي شهرياري، الذي فسّر تراجع نوعية الحياة ومعدل الأعمار في البلاد ورداءة الخدمات الصحية بهجرة محترفي القطاع الصحي من أطباء وممرضين وجراحين وتقنيين وباحثين، حتى صاروا يتجاوزون سنويا 5000 كادر صحي، بمعدل 15 كادرا يوميا، وتاليا تراجع الخدمات الصحية لما يقارب 2000 إيراني كل يوم.
ثمة رابط أولي ودائم، هو النبع الذي يستقي منه النظام الإيراني شرعيته.
فطوال ما يقرب من نصف قرن، كانت الرسالة الخطابية لهذا النظام تقول إن سبب سوء الأحوال التي يعيشها الشعب الإيراني، ومثله سائر الشعوب المسلمة، يتمثل في منع الدول الغربية لبلداننا، تحديدا إيران، من التقدم العلمي والتقني، وتاليا حرماننا من حياة رغيدة وآمنة، نحقق عبرها أجود أشكال العيش وأبهاها. ولأجل ذلك، كان النظام الإيراني يطرح حلا سحريا قائما على تحويل إيران بقعة من الأسلحة، لحماية ما يعتبره مشروعه الأكبر. فالرفاه والبروز على مسرح العالم مرهونان بالعسكرة الفائضة، وهذه الأخيرة تتطلب صمتا مستداما من مجتمعها الداخلي.
بعد خمسة عقود، كانت النتيجة تراجيدية تماما: استعداد مسبق للتخلي عما ظل يُعتبر طوال سنوات "عضد النظام" و"دُرّة تاج" تجربته الاستثنائية، أي البرنامج النووي والأسلحة الباليستية. وفي الوقت نفسه، غرق كل أشكال الحياة في البلاد لتكون ما دون نظيرتها في البلدان الأخرى، والتي قد لا توازي إيران فيما تملكه من طاقة وتنوع وجغرافيا وخيرات.
فأي بلد نفطي، شاسع، ومتنوع مناخيا، وقليل السكان نسبيا مثل إيران، يكون معدل الناتج المحلي الإجمالي للفرد خلال العام الحالي هو 5300 دولار فقط، بحسب مؤشرات البنك الدولي. أي بما لا يتجاوز ثلثي الرقم المحقق في ليبيا مثلا، وأقل من نصف الرقم المحقق في دولة "هامشية" كألبانيا، خرجت من ظلال واحد من أعتى الأنظمة الديكتاتورية منذ سنوات قليلة فحسب.
لا تبخل المصادر المفتوحة للمعلومات بالكثير من الأرقام من هذا النوع، فإيران مثلا تحتل المرتبة 160 من أصل 165 دولة في مجال "الحريات الاقتصادية"، رغم كونها دولة مترامية الأطراف، شديدة الثراء من حيث تنوع اقتصادها. كما تشغل إيران المرتبة 115 من أصل 147 دولة في مؤشر "الكوكب السعيد"، ولا يزيد مؤشر الحريات العام على 11 في المئة، ولا تتجاوز حرية الإنترنت فيها 12 في المئة، حسب آليات الاستدلال العالمية لقياس ذلك، فيما تجاوز التضخم الاقتصادي 40 في المئة، خلال العام الماضي، وتعدت بطالة الشباب مستوى 19 في المئة... وهكذا.
النظام الإيراني ينتمي إلى نموذج وعالم الأنظمة التي شيدت بنيان حكمها على "معاداة مستدامة" تجاه كل ما يحيط بها، القريب منها والبعيد، وبناء هيكل شرعية حكمها حسب تلك المعاداة الوظيفية
من أين يأتي كل هذا القدر من التراجيديا فيما آل إليه هذا البلد الذي كان في أوائل القرن الماضي يستعد لتقديم نموذج استثنائي في إمكان تحديث بلدان كانت دولا وإمبراطوريات تقليدية.
يُمكن تقديم تفسيرات تفصيلية لا تُعد لتأويل ما يحدث. فإيران مثلا مبنية على نظام شمولي تقليدي، ومن الطبيعي أن تتراجع معدلات ومستويات العيش داخله، وتهترئ مؤسسات الدولة والخدمات العامة داخله. كذلك فإن إيران محكومة من نُخبة متمركزة حول الذات، وتاليا تشيّد دروب العزلة عن العالم الخارجي بالتقادم.
لكن الحكم الإيراني، وبالإضافة إلى كل ذلك، ينتمي إلى نموذج وعالم تلك الأنظمة التي شيدت بنيان حكمها على "معاداة مستدامة" تجاه كل ما يحيط بها، القريب منها والبعيد، وبناء هيكل شرعية حكمها حسب تلك المعاداة الوظيفية.
كانت تلك الأنظمة، كاليابان أوائل القرن المنصرم، وألمانيا في الربع الثاني منه، وكوريا الشمالية فيما بعد، وقبلهما نماذج تاريخية لا تحصى، كانت تقوم على ثنائية مراكمة العسكرة، حتى تظهر البلاد وكأنها مجرد "برميل بارود"، ومعها رواية مفتوحة تجاه المجتمع المحلي، بدعوى "صدّ العدوان".
على الدوام، وفي لحظة ما استثنائية من تاريخ كل تلك التجارب- لكن مع حتمية القدوم- يلتقي الاهتراء الداخلي بعدم جدوى ونجاعة ما راكمه النظام من عسكرة.