هل ينظر الأدباء إلى الحرب كقصة خرافية، أو مسرح أو باليه؟... هل تثير الحروب سعادة مؤلفي أدب الخيال، وكأنهم آتون من الجبهة منتصرين؟ كي يكتبوا الحرب ويسردوها لإضفاء طابع جمالي على الأدب؟
زرتُ يوما متحف باستون للحرب في بلجيكا، ورأيت تقارير مكتوبة حول الحروب الماضية، لأجد روح القصة بداخل تلك التقارير، وكيف من الممكن أن تصبح سجلات الحرب وملاحظاتها بشكل خاص نوعا أدبيا... فالحرب مصدر إلهام رئيس للكُتّاب إجمالا. وبقدر ما يختبر المؤلف الحرب القادمة من صميم مجتمعه أو قارته، سواء كان من الشهود أو الضحايا، بقدر ما تحضر الشخصيات الخيالية في السرد الروائي وبالمعنى المادي، وهم ذاتهم من تسميهم الأوطان المقاتلين أو الشهداء..
قبل أيام اشتعلت منطقة الشرق الأوسط بحرب بين إسرائيل وإيران، تبادلا الصواريخ بينهما وعلى مدنهما، وكروائية موطنها قرب البلدين، أدركت أن حياتنا العادية في منطقتنا إجمالا لم تهدأ منذ قرن، ففي ساعات المناورات الصاروخية، بلا شك لم تكن مشاعرنا طيبة، وانغمسنا في دوامة الاعتداءات بشكل متواصل، وأمام السماء العالية، رأينا النيران في لحظات الموت لأولئك الحشرات البشرية المُحبة للقتل، والتخلص ممن لا يتفق مع دينه أو آرائه... والناس بطبيعة الحال بين هذا وذاك كما في ضجيج ملاعب كرة القدم، وعلى الرغم من عظمة الموت وهوله، يبقى للأوطان موت مقدس، موتٌ يقدمه الأبناء بحب وتواضع في ساحة القتال المرعبة أثناء إطلاق النيران العابرة، وروع الفُرجة في فضاء المدن المجاورة.
بينما الأدباء في الحروب، لهم الاستلهام والكتابة. على الرغم من أننا نجد أغلب الروايات الأدبية، والتي قرأناها عن الحروب، طويت في النسيان، بعد أن مرت بشهرتها في عهد ما، وكانت شهرة مؤقتة، لاختلاف الأهداف من زمن إلى زمن، وكذلك لاختلاف السياسات والانتماءات والوعي... وكم هي نادرة الروايات التي خلدت الحروب في تاريخ الإنسان، لعلمنا بجودة الاقتباس، فأغلبها مستوحى من حروب الواقع، لكن الأهم أنها تمتاز بالبحث عن أي أثر للنبل الإنساني من باب الصدق، كما في روايات غسان كنفاني وإبراهيم نصرالله وتولستوي وتوماس مان...
قبل أيام اشتعلت منطقة الشرق الأوسط بحرب بين إسرائيل وإيران، تبادلا الصواريخ بينهما وعلى مدنهما، وكروائية موطنها قرب البلدين، أدركت أن حياتنا العادية في منطقتنا إجمالا لم تهدأ منذ قرن
وحول موضوع الأدباء مع الحروب، وعلى أثر الصواريخ التي أضاءت السماء في الخليج العربي وبلاد الرافدين وبلاد الشام قبل أيام، لا بد أن يتذكر الكُتّاب، أن مارسيل بروست وجد يوما في سماء باريس ليلا وأثناء الغارات، شكلا من أشكال الجمال، مثلما تفاخر أرنست همنغواي أمام الصحافة بأنه كان مراسلا صحافيا في الحرب قبل أن يكون روائيا، ولعله استقى أفضل ما في فن الرواية من عمله كمراسل في جبهة القتال... كما كانت الحرب أطروحة الدكتوراه لجان بول سارتر، الذي اعتبر أن الحرب هي النوع الأدبي الأمثل...
وبين الروايات القديمة والروايات المعاصرة عن الحروب، استمرت الحروب في واقعنا، مع تطور أدوات الحرب وتقنياتها، ولا استدامة سوى للبُعد الإنساني، والعقل والرحمة والشرف، فالقنابل التي كانت تجري في السماء من مدافع القرون السابقة، ومن سواحل المدن القريبة، باتت تسمى اليوم صواريخ، تطورت حتى أصبحت تعبر بين عدة دول وتسقط في المدينة البعيدة والمستهدفة، كما كان قبل أيام بين إيران وإسرائيل. ولعل الروايات القادمة سوف تسرد المأساة الأخلاقية الإنسانية ذاتها، ليبقى الاختلاف فقط في الأدوات المتطورة للسحق.
ولتوضيح ذلك هناك أدبان، وواجب علينا أن نميز بينهما، وهما الأدب الذي يعطي تفسيرا للحرب، والأدب الذي يواجه حقيقة مفادها أن الحرب من بين كل التجارب الإنسانية واحدة من أكثرها عبثية في الأرض، وعلينا أن نتيقن كأدباء بأن هناك تيارين مختلفين داخل كل رواية، فكل الحروب متوحشة، وممر مظلم إلى العظمة، لكن يجب أن ينتهي الأمر إلى الأدباء تحديدا، بأن ينكروا ذاتهم أثناء الكتابة، ولا يُلبّوا سوى نداء أبرياء التربة.