كيف أضرّ تفجير الكنيسة بشعور الأمان في دمشق؟

كيف أضرّ تفجير الكنيسة بشعور الأمان في دمشق؟

استمع إلى المقال دقيقة

يمكن القول بثقة إن التفجير الانتحاري الذي استهدف كنيسة مار إلياس في حي الدويلعة بدمشق الأسبوع الماضي لم يُزهق أرواحا بريئة فحسب، بل حطم الثقة العامة وأشعل موجة من الغضب. وبالنسبة لكثيرين، كان هذا الحدث نقطة تحول مؤلمة، إذ حول القلق إلى خيبة أمل علنية تجاه السلطات الانتقالية في سوريا، ووضع الآمال المعقودة على أن يجلب عصر ما بعد بشار الأسد الأمان والسلام موضع شك.

ورغم الاعتقالات السريعة التي أعقبت التفجير، والزيارات الرسمية رفيعة المستوى، ومكالمة التعزية من الرئيس المؤقت أحمد الشرع، والتطمينات الصادرة عن الحكومة، فإن استجابة السلطات لم تكن كافية في نظر عدد كبير من السوريين. فقد كشف الهجوم عن فشل عميق وهيكلي، تمثل في عجز الأجهزة الأمنية عن توقع أو تحييد التهديدات التي تواجه المجتمعات الضعيفة. وتزايد بين المسيحيين وغيرهم طرح سؤال صعب: هل تستطيع السلطات الجديدة فعلا حماية شعبها؟

بلغ الإحباط ذروته خلال مراسم تأبين الضحايا، في الكلمة التي ألقاها البطريرك يوحنا العاشر اليازجي، بطريرك الروم الأرثوذكس، حيث ألقى باللائمة مباشرة على الحكومة لفشلها في منع الهجوم. وقد لاقت كلماته صدى واسعا في الأوساط المسيحية، التي لم تعد ترى في التفجير حادثا معزولا، بل تراه جزءا من نمط مقلق آخذ في التصاعد.

ويأتي الهجوم على كنيسة مار إلياس في سياق سلسلة من الحوادث الطائفية، بدأت بالمجازر الجماعية في المناطق العلوية الساحلية، مرورا بالاشتباكات العنيفة في بلدات درزية في السويداء وريف دمشق. وتصر الحكومة على تصوير هذه الأحداث كوقائع منفصلة، غير أن كثيرين يعتبرون هذا الطرح تضليليا وإنكارا لحقيقة الواقع. فبإغفال خطورة هذه الهجمات واعتبارها عشوائية بدلا من الاعتراف بها كعلامة تحذير على عدم استقرار أعمق، تخاطر السلطات بجعل الوضع المتقلب يخرج عن السيطرة بالكامل.

على السلطات الانتقالية في سوريا أن تدرك أن الأمن لا يقتصر على إيقاف التهديدات فحسب، بل يشمل أيضا إعادة بناء الثقة. فمستقبل البلاد لا يُبنى على الوعود وحدها

ولا ينبع الغضب مما حدث فحسب، بل من المخاوف المتزايدة حيال ما قد يأتي لاحقا. فعلى الرغم من الوجود الأمني الواضح في دمشق، كشف التفجير عن ثغرات خطيرة في أداء هذه القوات. وهذه الثغرات باتت واضحة حتى للعين غير المدربة. ففي زياراتي الأخيرة إلى سوريا، مررت عبر نقاط تفتيش عسكرية في عدة محافظات دون أن يتم إيقافي أو تفتيشي بشكل سليم ولو لمرة واحدة. وغالبا ما يلوّح أفراد الأمن للمركبات بالمرور دون التحقق من الهويات أو فحص المحتويات، وهو سلوك أقرب إلى الاستعراض منه إلى الوقاية.
وقد خلصت، من خلال أحاديث أجريتها مع مصادر مطلعة، إلى أن قدرة الحكومة الانتقالية على إحباط هجمات "داعش" السابقة اعتمدت بشكل رئيس على جمع المعلومات الاستخباراتية، لا على بروتوكولات أمنية صارمة. فعندما يظهر تهديد موثوق، تشدد الإجراءات فورا، أما في غياب إنذارات محددة، فيسود التراخي.
ويسلط الهجوم على كنيسة مار إلياس الضوء على خطورة هذا النهج: فعندما تفشل الاستخبارات، لا توجد آليات بديلة تحول دون وصول المهاجم إلى هدفه أو تقليل حجم الضرر. وفي الأيام التي تلت الهجوم، وجدت نفسي أقيّم احتمالات الخطر في كل شارع مررت به وكل مبنى دخلته.
وما يجعل الموقف أكثر إثارة للقلق هو الطبيعة غير المتوقعة لهذا العنف. فالهجوم استهدف كنيسة هذه المرة، لكن المرة القادمة قد يكون الهدف مستشفى، أو مدرسة، أو سوقا، أو فندقا. هذا الخوف بات يهيمن على دمشق وينتشر بسرعة. ففي الأيام التالية للتفجير، لم أتمكن من السير في أي شارع أو دخول أي مبنى دون أن أحسب بصمت احتمالات وقوع هجوم جديد.
إن الخسارة الحقيقية لمثل هذه الهجمات تتجاوز الخسائر الفورية، المأساوية بحد ذاتها. فهي تقوض الأساس نفسه للثقة العامة في الحكومة الانتقالية، وهي ثقة لا غنى عنها لإعادة بناء دولة مزقتها الحرب. ومن دونها، يبقى التعافي بعيد المنال.
لذلك، على السلطات الانتقالية في سوريا أن تدرك أن الأمن لا يقتصر على إيقاف التهديدات فحسب، بل يشمل أيضا إعادة بناء الثقة. فمستقبل البلاد لا يُبنى على الوعود وحدها، بل يحتاج إلى إجراءات واضحة ومستدامة. ويشمل ذلك تشديد بروتوكولات نقاط التفتيش، وإعادة النظر في تنسيق المعلومات الاستخباراتية، وضمان شعور جميع المجتمعات، بغض النظر عن الدين أو الخلفية، بأنها محمية بحق.
إذا كانت الحكومة الانتقالية تأمل في رسم مسار موثوق للمستقبل، فعليها أولا أن تثبت قدرتها على ضمان سلامة شعبها. فمن دون هذا الأساس، لا يمكن أن يكون هناك انتقال مستقر، ولا تعاف حقيقي.

font change