إيران... الرفاق والأخوة

إيران... الرفاق والأخوة

استمع إلى المقال دقيقة

حين حضر المرشد الإيراني علي خامنئي مراسم "عزاء عاشوراء" قبل عدة أيام، في أول ظهور له منذ الحرب الأخيرة، اقترب منه الرادود الشهير محمود كريمي، فهمس له خامنئي ببعض العبارات، فبدأ الأخير بقراءة ما يتلى في المناسبة، لكن بشكل مختلف تماماً عما كان خلال سنوات كثيرة ماضية، إذ تضمن ما أنشده الكثير من الإشارات والعبارات والدعوات "الوطنية الإيرانية"، ولم يسبق أن شهدت المناسبة مثل ذلك من قبل.

تشكل الحادثة مؤشرا على أحوال الحكم في طهران. فالأنظمة الشمولية تلجأ إلى مثل هذه الممارسات أثناء وعقب الأزمات القاهرة التي تعصف بها. تستخدم النزعات الوطنية كأداة تحشيد وإعادة ربط للقواعد الاجتماعية الأكثر بُعدا ومعارضة في النظام السياسي، وما أكثر هذه في إيران. يدفعها لذلك شعورها المتنامي بالفقد وسوء قدرة الموالين المؤتمنين على ضبط وتلبية حاجات النظام على مستوى استقرار النظام.

الأمثلة العالمية عن ذلك لا تُعد من كثرتها. إذ كان الزعيم السوفياتي جوزيف ستالين يخاطب الشعوب السوفياتية أثناء الحرب العالمية الثانية بـ"أيها الرفاق" تقليدياً، التزاماً بنوعية وضرورات الخطاب الشيوعي العام الذي يهيمن على البلاد. لكن، عندما كانت الجيوش السوفياتية تتعرض لخسائر ميدانية في مواجهة دول المحور، كان ستالين يبدأ كل خطاباته بالقول: "أيها الإخوة"، في مسعى لكسب ولاء وعواطف غير الشيوعيين من أبناء الشعب، بالذات الملتفين حول قيم ومؤسسات الكنيسة الأرثوذكسية الروسية، وتالياً خلق مساحة تأييد للنظام الحاكم أكثر وسعاً. أشياء من مثلها فعلتها الناصرية عقب "هزيمة عام 1967"، والنظام السوري السابق عقب اتهامه بجريمة اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري، ومثلهما فعلت كل الأنظمة الشمولية الأخرى، عقب تعرضها للهزائم أو مواجهتها للأزمات الحادة.

لا يُمكن تحويل الوطنية في إيران إلى مجرد أداة سلطوية للتحشيد المؤقت، بل تتطلب ترسانة من الالتزامات والسلوكيات التي على السلطة الحاكمة أن تنفذها

بالنسبة لتلك النوعية من الأنظمة، عادة ما كانت النزعات الوطنية تُستخدم كأداة وظيفية مؤقتة، تبتغي النُظم الحاكمة منها تجاوز أزمة ضاغطة فحسب، ما تلبث أن تعود إلى أدوات هيمنتها من مؤسسات وخطابات وهويات تقليدية. لكن المسألة في إيران أكثر تركيبا، لأن "الوطنية الإيرانية" لا يُمكن استخدامها كأداة خطابية مجردة أو سلوك وظيفي يلبي الحاجة المؤقتة للحكام. بل هي أعمق دورا وأكثر فاعلية من ذلك بكثير، فهي قادرة على الإحاطة بالنظام ونُخبه العليا، لا العكس فهي تُفقدهم إمكانية التراجع عنها، فيما لو استخدموها، ولو لمرة. 
فالدولة الإيرانية الراهنة هي وريثة لكيان إيران التاريخي، الذي كان قائماً على نفس هذه الجغرافيا والمجتمعات والذاكرات الجمعية والثقافية والطبقية النافذة حتى الوقت الراهن. صحيح تقلص الكيان الإيراني لفترات وجيزة أثناء بعض مراحل التاريخ، وتمدد في أثناء أخرى، لكنه كان شبه مطابق للكيان الحالي منذ آلاف السنين، وما يزال. 
لذا، تحضر الوطنية في الوجدان الجمعي كفاعل تقليدي مفعم الزخم ومؤثر حياتي مستدام، كثيف النشاط والإنتاج للذات الكلية والمشاعر المشتركة، حتى بالنسبة لأكثر الجماعات التي من المفترض أن لا تكون كذلك. فالأكراد الإيرانيون على سبيل المثال، وعلى الرغم من نزعتهم القومية الواضحة، إلا أنهم متمايزون عن أكراد باقي بلدان المنطقة في العواطف والروابط الوطنية التي تجمعهم مع باقي المجتمعات الإيرانية، ومثلهم الأذريون والبلوش والعرب الإيرانيون، وإن بدرجات متفاوتة. 
لأجل ذلك، لا يُمكن تحويل الوطنية في إيران إلى مجرد أداة سلطوية للتحشيد المؤقت، بل تتطلب ترسانة من الالتزامات والسلوكيات التي على السلطة الحاكمة أن تنفذها، فيما لو رغبت إدراجها واستخدامها في اللعبة السياسية الداخلية. أي أن تترك كمية كبيرة من سياساتها وأشكال قبولها للمجتمعات الداخلية الإيرانية. 
كذلك شغلت الوطنية الإيرانية طوال عقود كثيرة ماضية مكانة "الضد النوعي" لخطاب وهوية الحكم. فكل أحزاب المعارضة، ومثلها النُخب الثقافية والاجتماعية وحتى الاقتصادية الإيرانية كانت تراكب مطالبها وهوياتها السياسية الاعتراضية على بنية وهوية النظام بالهوية والحساسية والتطلعات الوطنية، وتصنف النظام كجهة "مُعكرة" للوطنية ومتجاوزة لشروطها ومصالحها. 

المؤرخة الإيرانية-الأميركية البارزة باميلا كريمي شرحت ذلك مطولاً في كتابها ذائع الصيت "إيران البديلة.. الفن المعاصر والممارسة المكانية النقدية"، إذ عرضت مئات النماذج من الحياة الثقافية والفنية والاجتماعية الإيرانية خلال السنوات الماضية، كانت كل واحدة منها محملة بطاقة انتقادية معترضة على بنيان الحكم، عبر إدخال وتضمين الأعمال والتعبيرات الإنتاجية والإبداعية بكم هائل من الرمزيات الوطنية، كمحاولة للقول إن النظام خارج هذه المكانة "المقدسة". 
بحسب ذلك، فإن تجريب النظام مقاربة تلك الوطنية إنما ستدفعه لاتخاذ طيف من السلوكيات والقرارات والسياسات الموافية لمتطلبات تلك الطبقات الإيرانية، المعترضة عليه جذرياً. هذه التجربة التي حاول النظام تطبيقها في أواسط التسعينات مع وصول الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي إلى سُدة الحُكم، لكن حينما جرب عكسها مرة أخرى، شهدت البلاد أوسع موجة استقطاب في وجه النظام الحاكم.
مع الأمرين، فإن الوطنية الإيرانية صنو مجموعة من السلوكيات التي على النظام الإيراني أن يمارسها ميدانيا في الخارج، فالوطنية المفترضة ليست التزامات رمزية أو طروحات خطابية فحسب، بل آليات عمل ميدانية معقدة. تبدأ من التزام تام بعدم إيقاع إيران "في التهلكة"، عبر حروب ومواجهات لا طائل منها، وتالياً متاركة مشاريع مثل التوسع الإقليمي حسب جدول أعمال "طائفي الهوى"، وإعادة التفكير باستراتيجيات أمنية وسياسية طائلة التكلفة وقليلة المردود مثل البرنامج النووي المشكوك في أمره أو الصواريخ البالستية العابرة للقارات. فالإيرانيون ما تركوا مظاهرات عارمة طوال السنوات إلا وقالوا فيها: "نه غزه، نه لبنان، جانم فدای إیران"، أي: "لا غزة ولا لبنان، روحي فداء لإيران". 

font change