كيف تنجو الكلمات من العطب العصبي؟

الصرع وتعلم اللغات

Sara Gironi Carnevale
Sara Gironi Carnevale
في مواجهة نوبات الصرع يعيد الدماغ تموضع اللغة الثانية ويقاوم بلدونته مشاكله العصبية

كيف تنجو الكلمات من العطب العصبي؟

في غرفة معزولة داخل معمل تابع لجامعة كاليفورنيا الأميركية، يستلقي طفل يبلغ من العمر 12 عاما داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، رأسه مثبت بعناية، وعيناه تتابعان صورا تظهر أمامه على شاشة صغيرة كلمات بالإسبانية، وأخرى بلغته الأم، الإنكليزية.

يهمس الباحث عبر الميكروفون: "قل الكلمة بصوت داخلي فقط". في الخارج، تومض شاشة الجهاز بألوان متغيرة، ترصد مناطق الدماغ التي تضيء كلما استدعى الطفل كلمة، أو استشعر معناها.

لكن هذا ليس مجرد اختبار لغوي، ولا تجربة تعليمية. فالطفل مصاب بالصرع. ونوبات المرض لديه تبدأ من النصف الأيسر من الدماغ، أي الجانب الذي يتحكم عادةً في اللغة. فكيف، إذن، لا يزال قادرا على التحدث، والفهم، والتعلم؟ وهل يمكن أن يعيد دماغ الصرع توزيع المهارات اللغوية ليجنّبها الخطر؟ وهل يمكن أن تنتقل اللغة الثانية إلى الجانب "الآمن" من الدماغ كآلية للبقاء والتكيف؟

ما بدأ كفحص طبي روتيني تحوّل إلى نافذة على معجزة بيولوجية. فالدماغ الثنائي اللغة لا يستسلم، بل يبدع طرقا غير متوقعة لحماية لغاته في وجه العاصفة العصبية.

الصرع وثنائية اللغة

الصرع هو اضطراب عصبي مزمن ناتج من نشاط كهربائي غير طبيعي في الدماغ يؤدي إلى نوبات مفاجئة قد تختلف في شدتها، من تشنجات حركية واضحة إلى لحظات من التحديق أو فقدان مؤقت للوعي.

لكن الصرع ليس مجرد نوبات، بل هو حالة معقدة تؤثر أحيانا على الذاكرة، واللغة، والانتباه، خاصة إذا كان منشأ النوبات في المناطق المرتبطة بهذه الوظائف، مثل الفص الصدغي أو الجبهي. ويُعدّ الصرع من أكثر الاضطرابات العصبية شيوعا، حيث يصيب نحو 50 مليون شخص حول العالم، بحسب منظمة الصحة العالمية.

ويؤثر الصرع على العديد من النشاطات الدماغية. وفي دراسة جديدة، قرر الباحثون فحص أدمغة المصابين بالصرع ويتقنون لغات عدة، بهدف معرفة الكيفية التي يؤثر بها الصرع على طريقة أدمغة ثنائيي اللغة التي تتعامل مع لغتين على الأقل.

فالتحدث بلغتين ليست مجرد "حفظ" كلمتين لكل شيء، بل يتعلق بكيفية توزيع ومعالجة هذه اللغات داخل البنية العصبية، فاللغة الأم يتعلمها الإنسان، وغالبا ما تكتسب في الطفولة المبكرة، وتُخزَّن في مراكز لغوية واسعة وعميقة. أما اللغة الثانية، التي تُكتسب لاحقا في الحياة — سواء في الطفولة المتأخرة أو حتى البلوغ — فتُخزَّن أحيانا بطريقة مختلفة، وقد تُعالَج في مناطق أخرى أو أقل رسوخا في الدماغ.

في الدماغ الطبيعي، غالبا ما تتم معالجة اللغة الأم واللغة الثانية في النصف الكروي نفسه للدماغ، وغالبا ما يكون الأيسر لدى الغالبية. لكن في حالة الصرع، وخاصة إذا كانت بؤرة النوبات تقع في هذا النصف اللغوي، يضطر الدماغ إلى "ابتكار" حلول بديلة.

تبدأ مناطق اللغة في الدماغ بالتطور المبكر حتى قبل الولادة، حيث يُظهر النصف الأيسر نشاطا أعلى استجابةً للأصوات والكلام داخل الرحم

ويكمن سر هذه الظاهرة في ما يُعرف باللدونة العصبية، وهي قدرة الدماغ العجيبة على التكيف مع التحديات، من خلال إعادة توجيه الوظائف الحيوية نحو مسارات جديدة أو مناطق سليمة، خاصة عند تعرضه لإصابة أو خلل مزمن مثل الصرع.

ورغم أن هذه القدرة تكون في أوجها لدى الأطفال، فإن الدراسات تُظهر أنها لا تختفي تماما عند البالغين، بل قد تنشط كرد فعل على الضغط العصبي أو التلف. وهنا تتدخل اللغة الثانية بوصفها عنصرا "مرنا عصبيا"، إذ لم تُخزَّن بعد في شبكة عصبية عميقة كاللغة الأم، لذا تكون أكثر قابلية للانتقال إلى نصف الدماغ السليم، كآلية هروب من النوبات.

أما اللغة الأم، المتجذرة في المناطق اللغوية الأصلية، فتكون أقل حظا وأكثر عرضة للتأثر. وهذا الفارق في "مرونة اللغات" داخل الدماغ المصاب بالصرع، هو ما أثار فضول العلماء أخيرا، ودفعهم الى التساؤل: هل يمكن أن تساعدنا اللغة الثانية في تصميم بروتوكولات علاجية تحافظ على مهارات النطق والفهم، حين تعجز اللغة الأم عن المقاومة؟

هيمنة العمليات اللغوية

عند الأشخاص الأحاديي اللغة، تتطور اللغة غالبا داخل نصف الدماغ الأيسر، الذي يهيمن بشكل واضح على العمليات اللغوية.

في معظم البشر (خاصة أصحاب اليد اليمنى)، يسيطر النصف الأيسر من الدماغ لغويا، أي أنه المسؤول الأساس عن معالجة اللغة. هذه الهيمنة ليست قرارا واعيا، بل ناتجة من بنية الدماغ وتطوره عبر الزمن، وقد تكون مرتبطة بتطور المهارات الحركية الدقيقة والتتابعية -كالنطق والكتابة- التي يختص بها هذا النصف.

Shutterstock
طبيب يشير بقلم إلى وعاء دموي في الدماغ في صورة الرنين المغناطيسي

يضم النصف الأيسر من الدماغ بنية عصبية متخصصة في معالجة اللغة، أبرزها ثلاث مناطق رئيسة تعمل بتناغم دقيق: منطقة بروكا في الفص الجبهي، وهي مسؤولة عن إنتاج اللغة وتركيب الجمل والنحو، ويؤدي تلفها إلى صعوبة في النطق رغم سلامة الفهم، ومنطقة فيرنيكه في الفص الصدغي، المختصة بفهم اللغة، ويؤدي تلفها إلى كلام طليق من الناحية الصوتية لكنه فارغ المعنى، أما القوس اللفيفي، فهو حزمة من الألياف العصبية تربط المنطقتين، وتشكل المسار الذي يسمح بترجمة الفهم إلى تعبير، مما يجعل من اللغة عملية مترابطة لا تنفصل فيها البنية عن المعنى.

تبدأ مناطق اللغة في الدماغ بالتطور المبكر حتى قبل الولادة، حيث يُظهر النصف الأيسر نشاطا أعلى استجابة للأصوات والكلام داخل الرحم، مما يشير إلى تمايز أولي في الوظيفة العصبية. بين الولادة وسن الثالثة، تحدث طفرة لغوية كبيرة، إذ تبدأ منطقتا بروكا وفيرنيكه بالنضوج، ويتعلم الطفل التمييز بين الأصوات وتقليدها ثم تركيب الكلمات، مدفوعا بالتحفيز السمعي والتفاعل الاجتماعي. من سن 3 إلى 6 سنوات، يزداد الترابط بين هذه المناطق ويتسارع نموها، مما يمكّن الطفل من اكتساب القواعد والمعاني اللغوية بمرونة كبيرة، وهي المرحلة المعروفة بـ"النافذة الحرجة" لاكتساب اللغة. وبعد سن السادسة، تتراجع هذه المرونة تدريجيا، لكن الدماغ يواصل تطوير المهارات اللغوية المعقدة كالقراءة والكتابة، من خلال دمج أنظمة سمعية وبصرية وحركية متعددة.

عندما يتعرض النصف الأيسر من الدماغ لإصابة، خاصة في مراحل النمو المبكرة، قد تنشط آليات تعويضية تعيد تموضع اللغة نحو النصف الأيمن

رغم أن النصف الأيسر يُعد المقر الرئيس لمعالجة اللغة، فإن الدماغ يتمتع بمرونة عصبية مذهلة تتيح له إعادة توزيع الوظائف عند الحاجة. ففي حالات إصابة الدماغ خلال الطفولة، لا سيما قبل سن الخامسة، يمكن النصف الأيمن أن يتولى بعض مهام اللغة، في مشهد يعكس قدرة الدماغ النامي على التعويض والتكيف. كذلك، عند تعلم لغة ثانية في سن متأخرة، قد لا تُخزَّن هذه اللغة في المناطق نفسها التي تحتضن اللغة الأولى، بل قد يتم تموضعها في النصف الأيمن أو توزيعها بشكل متناثر على جانبي الدماغ، مما يشير إلى أن اللغة ليست مجرد مهارة متجذرة، بل تجربة ديناميكية تتأثر بالزمن والسياق العصبي.

تموضع اللغات

فمن الخطأ أن نتصور اللغة كـ"ملف" محفوظ في رف معين داخل الدماغ، لأن ما يحدث في النصف الأيسر هو نشاط حي لشبكة عصبية ديناميكية تتفاعل مع كل لحظة لغوية. فعند سماع جملة، تُفعَّل منطقة فيرنيكه المسؤولة عن الفهم، وعند التفكير في الرد، تنشط مناطق ما قبل الحركية والفص الجبهي التي تخطط للغة، وعند النطق، يدخل بروكا والمخيخ والقشرة الحركية في تنسيق معقد لإخراج الكلام. وإذا كنا نكتب ما نسمع أو نقول، ينضم الفص الجداري والبصري لتحويل الصوت إلى حروف. في هذا المعنى، اللغة ليست شيئا محفوظا، بل أداء مستمر تشارك فيه مناطق متعددة بحسب المهمة والسياق.

فمثلا، عند ثنائيي اللغة، وعلى الرغم من أن النصف الأيسر يظل مركزا رئيسا لمعالجة اللغتين، إلا أن توزيع الوظائف اللغوية لديهم يكون أكثر تنوعا وامتدادا، وقد يشمل النصف الأيمن أيضا، سواء للغة الأم أو الثانية.

ويعود هذا التفاوت إلى عوامل متعددة، من بينها بيئة التعلّم الثنائية اللغة، والاستخدام اليومي لكل لغة، والتجارب العاطفية والاجتماعية المرتبطة بها. أحد أبرز هذه العوامل هو "عمر اكتساب اللغة الثانية"، حيث يمنح الاكتساب المبكر فرصة الاستفادة من فترة حساسة في تطور الدماغ، تتميز بلدونة عصبية مرتفعة.

عندما يتعرض النصف الأيسر من الدماغ لإصابة، خاصة في مراحل النمو المبكرة، قد تنشط آليات تعويضية تعيد تموضع اللغة نحو النصف الأيمن. هذا التكيف معروف في حالات أحاديي اللغة، لكنه أقل فهما لدى ثنائيي اللغة. المثير للاهتمام هو أن الدماغ الثنائي اللغة، بفضل تموضعه اللغوي الأضعف والأكثر تشتتا، قد يكون أفضل تجهيزا للتكيف مع الإصابات العصبية، مما يمنحه مرونة إضافية. ومع ذلك، لا تزال الأسئلة مطروحة: هل يشمل هذا التكيف كلا من اللغة الأم واللغة الثانية؟ أم أن إحدى اللغتين تكون أكثر استعدادا للنجاة والانتقال؟

للإجابة عن ذلك السؤال، أجرى العلماء دراسة حديثة على أشخاص يتحدثون لغتين ويعانون من صرع الفص الصدغي. وقد أظهرت النتائج أن اللغة الأم يتم دعمها في الدماغ من كلا الجانبين، بغض النظر عن موقع النوبة، في حين أن اللغة الثانية غالبا ما تتم معالجتها في الجانب المقابل لموقع النوبة، خصوصا إذا بدأت نوبات الصرع في الفترة نفسها التي تعلم فيها الشخص لغته الثانية. هذا يشير إلى أن اللغة الثانية قد تكون أكثر مرونة وقابلية للتكيف مع التغيرات العصبية من اللغة الأم.

اللغة الثانية لدى ثنائيي اللغة من مرضى الصرع تتمتع بقدر عال من اللدونة العصبية

واعتمدت الدراسة على تحليل بيانات 24 مريضا من ثنائيي اللغة و46 مريضا من أحاديي اللغة، جميعهم يعانون من صرع في الفص الصدغي، وهو جزء من الدماغ يرتبط بمعالجة اللغة واستخدم الباحثون تصوير الرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) لمراقبة نشاط الدماغ أثناء أداء مهام لغوية، واحتسبوا ما يُعرف بـ"مؤشر التموضع" الذي يعني المكان الذي تتم فيه معالجة اللغة داخل الدماغ، سواء في النصف الأيمن من الدماغ أو الأيسر.

كشفت الدراسة عن وجود علاقة وثيقة بين موقع النوبة الدماغية وتموضع اللغة، سواء اللغة الأم أو الثانية. فقد أظهر التحليل تفاعلا واضحا بين اللغة وموقع النوبة. في حالة اللغة الأم، لم يظهر أي فرق يُذكر في تموضعها بين النصفين الأيسر والأيمن من الدماغ، مما يشير إلى استقرار نسبي في تمثيل اللغة الأم. أما اللغة الثانية، فقد بدت أكثر حساسية لموقع النوبة، حيث أظهر المرضى الثنائيو اللغة الذين عانوا من نوبات في النصف الأيسر من الدماغ تموضعا لغويا أكثر يمينية أو ثنائية الجانب، في حين حافظ المصابون بنوبات في النصف الأيمن على نمط يساري تقليدي في تمثيل اللغة الثانية.

تمثيل متوازن

ومن اللافت أن ثنائيي اللغة عموما أظهروا تمثيلا أكثر ثنائية للغة الأم مقارنة بأحاديي اللغة، بغض النظر عن موضع النوبة. ويعكس هذا النمط على الأرجح تكيفا مبكرا في بنية الدماغ نتيجة التعامل مع لغتين منذ سن مبكرة. أما بالنسبة الى اللغة الثانية، فقد تبيّن أن تموضعها كان أكثر يمينية لدى ثنائيي اللغة المصابين بنوبات في النصف الأيسر، مقارنة بأحاديي اللغة، لكن لم يُلحظ هذا الفرق عندما كانت النوبة في النصف الأيمن. هذا يشير إلى أن اللغة الثانية لدى ثنائيي اللغة أكثر استعدادا لإعادة التنظيم العصبي، لا سيما عندما يتأثر الجانب المسيطر على اللغة.

Shutterstock
الصرع هو اضطراب عصبي مزمن ناتج من نشاط كهربائي غير طبيعي في الدماغ

أما أحد الجوانب المثيرة في الدراسة فتمثل في العلاقة بين توقيت اكتساب اللغة الثانية وعمر بدء النوبة. ففي مجموعة المرضى الذين يعانون من صرع الفص الصدغي الأيسر الثنائي اللغة، وُجد ارتباط إيجابي واضح، فكلما قل الفاصل الزمني بين بداية تعلم اللغة الثانية وظهور النوبة، زاد تمثيل اللغة الثانية في جانبي الدماغ. هذا يعني أن الاكتساب المبكر للغة الثانية، إذا تزامن مع إصابة دماغية، قد يحفّز الدماغ على توزيع تمثيل اللغة بشكل أكثر توازنا بين النصفين. في المقابل، لم يظهر مثل هذا الارتباط في حالة اللغة الأم، مما يعزز فكرة أن اللغة الثانية أكثر مرونة وقابلية للتكيف العصبي في سياق الإصابات.

كما بينت النتائج أن تموضع اللغة الثانية لا يؤثر فقط على البنية العصبية بل يرتبط أيضا بوظيفة اللغة الفعلية. في اختبارات طلاقة الحروف، أظهر المرضى الذين تموضعت اللغة الثانية لديهم في النصف المقابل للنوبة، أداء لغويا أفضل من أولئك الذين بقيت اللغة الثانية لديهم في جانب النوبة نفسه. أما في طلاقة الفئة، فلم تكن العلاقة ذات دلالة إحصائية. ومع ذلك، فإن هذه النتائج تدعم جزئيا الفرضية القائلة بأن إعادة تنظيم اللغة في النصف الأيمن قد تمثل آلية تعويضية تساهم في الحفاظ على الأداء اللغوي.

أبرز ما تكشفه الدراسة هو أن اللغة الثانية لدى ثنائيي اللغة تتمتع بقدر عال من اللدونة العصبية، تتأثر بشدة بعامل التوقيت، لا سيما إذا اكتُسبت في وقت مبكر وتزامن ذلك مع بداية المرض. في هذه الحالة، يبدو أن الدماغ يعيد توزيع وظائف اللغة الثانية نحو النصف الأيمن، خاصة عندما تكون النوبة في النصف الأيسر المسيطر عادة على اللغة. هذا النمط من التكيف قد يعكس فترة حرجة في الطفولة، عادة قبل سن السابعة أو العاشرة، حيث يكون تموضع اللغة لا يزال في طور التشكل، مما يتيح للدماغ مرونة أكبر في إعادة توزيع الوظائف اللغوية.

الدماغ لا ينظم كل اللغات بالطريقة نفسها، بل يعتمد توزيعها العصبي على توقيت تعلمها ومكان الإصابة العصبية


أما بالنسبة الى اللغة الأم، فقد حافظت على تموضع ثنائي الجانب لدى ثنائيي اللغة، بغض النظر عن موضع النوبة. هذا النمط من التمثيل يعكس على الأرجح تكيفات دماغية ناتجة من استخدام لغتين في وقت مبكر من الحياة، وهو ما يدعم النظريات التي تفترض وجود تأثير ارتجاعي من اللغة الثانية على اللغة الأم، أي أن تعلم اللغة الثانية قد يعيد تشكيل شبكات اللغة الأولى من خلال تفاعل متبادل بين النظامين اللغويين. وفي حين أن اللغة الثانية أظهرت مرونة عالية واستعدادا لإعادة التنظيم، بقيت اللغة الأم أكثر استقرارا، مما يدل على صلابة تموضعها في الدماغ.

التوزيع العصبي

تدعم النتائج جزئيا الفرضية القائلة إن إعادة تموضع اللغة الثانية نحو الجانب المعاكس للنوبة ترتبط بنتائج لغوية أفضل. وقد ظهر ذلك جليا في طلاقة الحروف، حيث أظهر ثنائيو اللغة ذوو الأداء الجيد تمثيلا للغة الثانية بعيدا من بؤرة النوبة، في حين تموضعت اللغة الثانية لدى ذوي الأداء الضعيف في الجانب نفسه. مع ذلك، لم تمتد هذه العلاقة لتشمل طلاقة الفئة، مما يطرح تساؤلات حول مدى عمومية هذا التأثير على مختلف جوانب اللغة.

وعلى الرغم من أهمية هذه النتائج، فإن الدراسة لا تخلو من القيود. فقد كان حجم العينة، خاصة بين ثنائيي اللغة، صغيرا نسبيا، مما يضعف القدرة على تعميم النتائج. كما أن غياب مجموعة ضابطة من الأفراد الثنائيي اللغة الأصحاء حدّ من إمكان الفصل بوضوح بين تأثير ثنائية اللغة وتأثير الصرع نفسه. يضاف إلى ذلك أن التصميم الاستعادي القائم على الملاحظة، لا يتيح استنتاج علاقات سببية قاطعة، وأن تقييم اللغة اقتصر على الطلاقة اللفظية دون الأخذ في الاعتبار مهارات لغوية أخرى أكثر تنوعا وتعقيدا. أيضا، فإن التنوع اللغوي في العينة كان محدودا بلغات أبجدية، مما يفتح الباب أمام الحاجة لدراسات تتناول متحدثي لغات ذات نظم مختلفة، كالنغمية أو اللوغوغرافية. وأخيرا، لم تتناول الدراسة بشكل معمق الخصائص العصبية البيولوجية الكامنة، مثل الاتصالية الوظيفية ودور أنظمة التحكم المعرفي العليا.

تؤكد هذه النتائج أن الدماغ لا ينظم كل اللغات بالطريقة نفسها، بل يعتمد توزيعها العصبي على توقيت تعلمها ومكان الإصابة العصبية. ورغم أن النصف الأيسر من الدماغ هو المسؤول التقليدي عن اللغة لدى معظم الأشخاص، إلا أن ثنائية اللغة والإصابات العصبية يمكن أن تغيّر هذا النمط.

كما تسلط الضوء على التفاعل المعقد بين ثنائية اللغة والعوامل السريرية، مثل توقيت الإصابة وموقعها، في تشكيل مرونة شبكة اللغة في الدماغ. وهي تبرز الحاجة إلى فهم أعمق لكيفية تأثير تعلم أكثر من لغة على التوزيع البنيوي والوظيفي للغة في الدماغ، وكيف يمكن هذه التعديلات أن تساهم في "الاحتياطي المعرفي" الذي يحمي اللغة في مواجهة الأمراض العصبية.

ومن وجهة تطبيقية، توحي النتائج بأن ثنائيي اللغة المصابين بأمراض في النصف الأيسر من الدماغ، في توقيت قريب من اكتسابهم للغة الثانية، قد تكون لديهم فرصة أفضل للحفاظ على اللغة الثانية بعد التدخلات الجراحية، نظرا لتمثيلها الأوسع في النصفين أو في النصف الأيمن. هذا يفتح المجال أمام تدخلات علاجية مستقبلية، مثل التحفيز العصبي أو العلاج اللغوي الموجه، لتفعيل النصف السليم ودعم تعافي اللغة، خصوصا لدى الأطفال الثنائيي اللغة.

ما وجده الباحثون قد يكون له تأثيرات عملية مهمة. فالمصابون بثنائية اللغة الذين تعلموا لغتهم الثانية في سن مبكرة، أظهروا قدرة أفضل على توزيع الوظائف اللغوية عبر نصفي الدماغ، مما يعزز مرونتهم العصبية في مواجهة الصرع.

فالنتائج لا تسلط الضوء فقط على مدى تعقيد تموضع اللغة في الدماغ، بل تفتح أيضًا آفاقا جديدة لفهم التعافي اللغوي بعد الإصابات الدماغية، وإعادة التفكير في برامج التأهيل اللغوي لمرضى الصرع وثنائيي اللغة.

font change