في غرفة معزولة داخل معمل تابع لجامعة كاليفورنيا الأميركية، يستلقي طفل يبلغ من العمر 12 عاما داخل جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، رأسه مثبت بعناية، وعيناه تتابعان صورا تظهر أمامه على شاشة صغيرة كلمات بالإسبانية، وأخرى بلغته الأم، الإنكليزية.
يهمس الباحث عبر الميكروفون: "قل الكلمة بصوت داخلي فقط". في الخارج، تومض شاشة الجهاز بألوان متغيرة، ترصد مناطق الدماغ التي تضيء كلما استدعى الطفل كلمة، أو استشعر معناها.
لكن هذا ليس مجرد اختبار لغوي، ولا تجربة تعليمية. فالطفل مصاب بالصرع. ونوبات المرض لديه تبدأ من النصف الأيسر من الدماغ، أي الجانب الذي يتحكم عادةً في اللغة. فكيف، إذن، لا يزال قادرا على التحدث، والفهم، والتعلم؟ وهل يمكن أن يعيد دماغ الصرع توزيع المهارات اللغوية ليجنّبها الخطر؟ وهل يمكن أن تنتقل اللغة الثانية إلى الجانب "الآمن" من الدماغ كآلية للبقاء والتكيف؟
ما بدأ كفحص طبي روتيني تحوّل إلى نافذة على معجزة بيولوجية. فالدماغ الثنائي اللغة لا يستسلم، بل يبدع طرقا غير متوقعة لحماية لغاته في وجه العاصفة العصبية.
الصرع وثنائية اللغة
الصرع هو اضطراب عصبي مزمن ناتج من نشاط كهربائي غير طبيعي في الدماغ يؤدي إلى نوبات مفاجئة قد تختلف في شدتها، من تشنجات حركية واضحة إلى لحظات من التحديق أو فقدان مؤقت للوعي.
لكن الصرع ليس مجرد نوبات، بل هو حالة معقدة تؤثر أحيانا على الذاكرة، واللغة، والانتباه، خاصة إذا كان منشأ النوبات في المناطق المرتبطة بهذه الوظائف، مثل الفص الصدغي أو الجبهي. ويُعدّ الصرع من أكثر الاضطرابات العصبية شيوعا، حيث يصيب نحو 50 مليون شخص حول العالم، بحسب منظمة الصحة العالمية.
ويؤثر الصرع على العديد من النشاطات الدماغية. وفي دراسة جديدة، قرر الباحثون فحص أدمغة المصابين بالصرع ويتقنون لغات عدة، بهدف معرفة الكيفية التي يؤثر بها الصرع على طريقة أدمغة ثنائيي اللغة التي تتعامل مع لغتين على الأقل.
فالتحدث بلغتين ليست مجرد "حفظ" كلمتين لكل شيء، بل يتعلق بكيفية توزيع ومعالجة هذه اللغات داخل البنية العصبية، فاللغة الأم يتعلمها الإنسان، وغالبا ما تكتسب في الطفولة المبكرة، وتُخزَّن في مراكز لغوية واسعة وعميقة. أما اللغة الثانية، التي تُكتسب لاحقا في الحياة — سواء في الطفولة المتأخرة أو حتى البلوغ — فتُخزَّن أحيانا بطريقة مختلفة، وقد تُعالَج في مناطق أخرى أو أقل رسوخا في الدماغ.
في الدماغ الطبيعي، غالبا ما تتم معالجة اللغة الأم واللغة الثانية في النصف الكروي نفسه للدماغ، وغالبا ما يكون الأيسر لدى الغالبية. لكن في حالة الصرع، وخاصة إذا كانت بؤرة النوبات تقع في هذا النصف اللغوي، يضطر الدماغ إلى "ابتكار" حلول بديلة.