الخيال بين الفلسفة العقلانية والرؤية العرفانية

الخيال بين الفلسفة العقلانية والرؤية العرفانية

استمع إلى المقال دقيقة

لم يكن الخيال حاضرا في الفكر الفلسفي بنفس الدرجة ولا بنفس التقدير عبر العصور. ففي حين رآه بعض الفلاسفة مجرد وهم أو صورة مشوشة للحقيقة، منحه آخرون مكانة جوهرية بوصفه سبيلا إلى المعرفة، أو قوة كونية تكشف عن إمكانات الوجود. من الفلاسفة الذين احتقروا الخيال أو قلّلوا من قيمته أفلاطون. حيث وضعه في أدنى درجات المعرفة ضمن تقسيمه الشهير، باعتباره يتعامل مع الظلال والانعكاسات لا مع المثل الحقيقية.

أما ديكارت، فاعتبره غير ضروري للمعرفة اليقينية لأنه يعتمد على الصور الحسية، وهي أقل وضوحا من الأفكار العقلية. وميز كانط بين الخيال المنضبط الذي يخدم العقل، والخيال الحر الذي قد يضلّ إذا لم يخضع لقوانين الفكر. وربطه فيلسوف العلم أوغست كونت بالمرحلة الطفولية من تطور الفكر، قبل الوصول إلى المرحلة الوضعية العلمية، حسب تقسيمه المعروف لرحلة العلم وتطوره.

ورأى ديفيد هيوم أن الخيال يربط الأفكار لكنه لا يمنح معرفة ضرورية، بل يبني روابط قد تكون وهمية. وأبقى شوبنهاور الخيال في سطح التمثيلات، بعيدا عن جوهر الإرادة الكامنة. أما الوضعية المنطقية فقد ألغت كل خطاب خيالي غير قابل للتحقق التجريبي، وعدّته بلا قيمة فلسفية.

في هذه المواقف يغلب منطق الحذر من الخيال باعتباره قوة مموّهة، قد تحجب الحقيقة أو تستبدلها بصورة مضللة. ومع ذلك، لم يكن كل الفلاسفة خصوما للخيال، بل فيهم من أعطاه مكانة محورية. فأفلوطين، جعله وسيلة لترجمة المعاني المعقولة في صور محسوسة ترتقي بالنفس نحو العالم الأعلى. ورآه بيرغسون طاقة روحية خلاقة تتفوق على العقل في إدراك الديمومة والحياة. واعتبره نيتشه قوة خلق القيم وكسر الأوهام العقلانية. ومنحه هايدغر دورا في الفهم الوجودي الأصلي، بوصفه قدرة على إظهار الممكنات. وإرنست بلوخ، ربطه بمبدأ الأمل، كطاقة استباقية تكشف إمكانيات المستقبل. وغاستون باشلار جعله أساس الشعر والأنطولوجيا الخيالية للطبيعة. فيما فرّق كولريدج بين الخيال الابتداعي الموحد للمتناقضات، والخيال التناسلي المقلّد.

وللطب النفسي رأي وجدناه عند كارل يونغ، فقد اعتبره لغة اللاوعي الجمعي وأداة الوعي بالذات. واندمج الشعراء مع هؤلاء الفلاسفة، فوجدنا وليم بليك يرفعه إلى مرتبة الحقيقة الروحية الوحيدة.

ثمة اختلاف كبير بين الفريقين، فهذه الرؤى الأخيرة، لا يرى أصحابها أن الخيال انحراف عن الحقيقة، بل طريق إليها، بل وأحيانا السبيل الأعمق لفهم الوجود. ولعل هذا لا يكون شططا، حين أقول إن ابن عربي الطائي هو من أعطى الخيال أعظم منزلة، أعظم من كل ما تقدم.

عند ابن عربي، يخرج الخيال من كونه مجرد قدرة ذهنية، ليصبح مرتبة كونية قائمة بذاتها، لها موقع محدد في بنية الوجود. إنه عالم البرزخ أو عالم المثال، الواسطة بين الغيب والشهادة، بين الحق والخلق. هذا العالم ليس وهما، بل "خيال حقّ"، أي صورة لجوهر غير مرئي، موجودة بالله، لكنها لا تملك وجودا ذاتيا مستقلا.

والخيال هو الجسر الذي تنتقل عبره المعاني الغيبية إلى صور حسية، والعكس. بدونه ينقطع التواصل بين العوالم. في هذا العالم، يمكن للمعقول أن يظهر في صورة محسوسة، وللمحسوس أن يتجرد إلى معنى.

الحقيقة عند ابن عربي لا تُدرك بالعقل المجرد ولا بالحس، بل بالخيال الحقيقي الذي يجمع بين الظاهر والباطن، ويرى الوحدة في التعدد

الأحلام الصادقة والمكاشفات الروحية تقع كلها في عالم الخيال. الصورة التي تُرى في المنام أو الكشف ليست الشيء نفسه، بل مثاله الخيالي، وهي في نظر ابن عربي قد تكون أصدق من الإدراك الحسي لأنها تكشف الباطن.
والحقيقة عند ابن عربي لا تُدرك بالعقل المجرد ولا بالحس، بل بالخيال الحقيقي الذي يجمع بين الظاهر والباطن، ويرى الوحدة في التعدد. بهذا المعنى يصبح الخيال لغة رمزية لقراءة الكون. وعارف الحق هو الذي يرى الصورة ولا يتوقف عندها، بل يعبر بها إلى معناها، مدركا أن كل صورة في العالم هي رمز لتجلي الحق.
يقول ابن عربي: "فاعلم أنّ الخيال هو البرزخ بين المحسوس والمعقول، يقبل صور المعقولات في كسوة المحسوسات، ويكسو المعاني ثوب الصور، فلا ينكرها العقل ولا الحسّ". هذا النص يوضح أن الخيال هو الوسيط الذي يصوغ المعنى في صورة، ويجعل الحسّ والعقل قادرين على استقبال ما يتعالى عليهما.
"ما تراه في نومك أو كشفك هو حقّ في نفسه، وإن تنوعت صوره، إذ الصور تختلف على قدر القوابل، والحقيقة واحدة". هنا يبيّن ابن عربي أن الرؤى ليست أوهاما، بل تجليات حقيقية، والصور تتشكل وفق استعداد الرائي.
وعن وظيفة الخيال في الجمع بين الظاهر والباطن يقول: "الخيال يجمع لك بين ما تناقض في عقول الناظرين، فيريك المعنى في صورة، والصورة في معنى". وهذا يوضّح قدرة الخيال على تجاوز الانقسام بين الحسّ والعقل، الظاهر والباطن.

font change