الدولة السعودية بين الدين والمدنية

الدولة السعودية بين الدين والمدنية

استمع إلى المقال دقيقة

حين نتأمل تاريخ الدولة السعودية وندرس مراحلها الثلاث التي اعتبرها بعض المؤرخين دولا ثلاث، نجد أنفسنا أمام سؤال محوري: هل هي دولة دينية؟ أم مدنية سياسية؟ هذا السؤال ليس نظريا مجردا، بل هو مدخل لفهم طبيعة وطننا الذي نشأ في قلب الجزيرة العربية في منتصف القرن الثامن عشر، ثم تطور عبر ثلاث مراحل كبرى حتى صار "المملكة العربية السعودية" الحديثة. والجواب المباشر هو أن الدولة السعودية في مرحلتيها الأولى والثانية كانت دينية في جوهرها، وإن لم يحكمها رجال الدين بأنفسهم، بينما حملت المرحلة الثالثة التي يمثلها الملك عبدالعزيز طابعا مختلفا، إذ أبقت على الشرعية الدينية لكنها اتخذت شكل الدولة الحديثة المدنية المنفتحة على العالم.

الدولة السعودية في المرحلة الأولى التي قامت في الدرعية كانت دولة دينية بالمعنى الجوهري للكلمة، لأن أساس قيامها لم يكن صراعا قبليا ولا مصالح اقتصادية، رغم أن دولة الإمام محمد بن سعود بدأت في 1727 إلا أنها تحولت إلى دولة دينية بعد الدعوة الإصلاحية التي أطلقها الشيخ محمد بن عبدالوهاب، والتي جعلت من تطهير التوحيد وتصحيح العقيدة والقطع مع الصوفية، وسلطة الأولياء، قضية وجودية. الفكرة الأساسية هي العودة إلى الإسلام الأول، حيث لا وساطة بين الإنسان وربه.

لم يكن الدين غطاء للسياسة، بل هو جوهر الكيان وروحه، وهو الذي جعلها تختلف عن سائر الإمارات العربية التي كانت تقوم على العصبية والغلبة. ومع ذلك، لم يكن الحكم بيد الفقهاء ولا تحولت الدولة إلى كهنوتية كالتي يحكم فيها رجال الدين مباشرة، بل كان الإمام محمد بن سعود ثم أبناؤه ثم أحفاده هم من يحكمون، وهم أصحاب القرار السياسي والعسكري، لكن ترك لفقهاء الحنابلة القضاء والإفتاء والتشريع. وبهذا تحديدا كانت دينية بالمعنى الأوسع.

إقامة الدولة كانت رغبة صادرة من صميم إرادة شعب الجزيرة كله، وحين سقطت الدرعية بعد الحملة العثمانية المصرية عام 1818، لم تنته الفكرة. فقد عادت الدولة السعودية في مرحلتها الثانية بعد سنوات قليلة، بل إن المقاومة بدأت من أول يوم من دمار الدرعية، مع الرجل الشجاع الشاعر تركي بن عبد الله الذي نقل الدولة من الدرعية التي هدمت إلى الرياض. وحافظت الدولة على الطابع نفسه، فهي أيضا دولة دينية في جوهرها، إذ ما زال التطبيق الحرفي للشريعة هو أساس الحكم والقضاء، وما زالت الدعوة الإصلاحية مرجع الشرعية. لكن الفارق أن الثانية انشغلت أكثر بالصراعات السياسية الداخلية، ودخلت في منافسة مع قوى محلية، فلم يعد التوسع الدعوي في الواجهة كما كان في الأولى.

إقامة الدولة كانت رغبة صادرة من صميم إرادة شعب الجزيرة كله، وحين سقطت الدرعية بعد الحملة العثمانية-المصرية عام 1818، لم تنته الفكرة

بعبارة أخرى، الطابع الديني لم يتغير، لكنه تراجع عمليا أمام ثقل الصراع السياسي والعسكري الداخلي. لم تتحول الدولة الثانية إلى مدنية، بل ظلت دينية في هويتها وشرعيتها، لكن الجانب الدعوي صار أضعف. ومن هنا يمكن القول إن الأولى كانت دينية في مشروعها التوسعي والإصلاحي، بينما الثانية ظلت دينية في الهوية لكنها أقل حيوية وأشد انشغالا بأزمات الداخل والحروب الداخلية.

ثم جاء الملك عبدالعزيز في مطلع القرن العشرين مستفيدا من التجربة السعودية السابقة، بحلوها ومرها، وأدرك أن التمسك بالنمط القديم لم يعد كافيا للبقاء في عالم يتغير بسرعة. لقد حافظ على الدين أساسا للشرعية ووحدة للهوية، لكنه لم يؤسس دولة دينية بالمعنى الكهنوتي، فلم يسلم مقاليد الحكم للفقهاء، بل ظل القرار السياسي بيده، بينما بقي الفقهاء مرجعية دينية وقضائية. ما فعله عبدالعزيز هو أنه نقل الدولة من إمارة دينية الطابع إلى مملكة عربية حديثة، عربية في هويتها، سعودية في نسبها إلى الأسرة المؤسسة، مسلمة لكنها ليست ثيوقراطية، واستبدل لقب (الإمام) الذي كان لكل من حكموا السعودية قبله، بلقب دنيوي (ملك المملكة العربية السعودية). لقد تطورت دولته كثيرا عن النموذج الأول، والسبب في ذلك هو أن الظروف السياسية التي عاصرها تختلف عن الظروف التي عاشها سابقوه. إنه الأول من أسلافه، الذي يدخل في علاقات مباشرة مع القوى العظمى. لقد أبصر ما الذي حل بالدرعية 1818 عندما صادمت دولة أقوى منها في العتاد والعدة والجيش الرسمي المدرب، وأدرك أهمية العلاقات الدولية والانفتاح على العالم والارتباط بتحالفات قوية. غياب هذه العناصر هو ما أدى لدمار الدرعية 1818.

لم يكن لأئمة الدولة السعودية في المرحلة الأولى والثانية أن يحققوا النقلة التي تحققت لعبدالعزيز، فالجزيرة العربية في عصورهم كانت معزولة عن العالم، بعيدة عن مسارات التجارة الدولية، ولا يطرقها الاهتمام الخارجي إلا لمواسم الحج أو في أطراف السواحل. لذلك بقيت تجاربهم محلية الطابع مهما اتسعت رقعتها، وظلت الدعوة الإصلاحية والشرعية الدينية إطارها الأبرز. أما مع عبدالعزيز فقد تبدلت الظروف. دخل العالم في مرحلة جديدة بعد الحربين العالميتين، انهارت الدولة العثمانية، تمدد النفوذ البريطاني، ثم الأميركي، ثم جاء النفط ليجعل من الجزيرة العربية بؤرة اهتمام عالمي.

لم تتحول الدولة الثانية إلى مدنية، بل ظلت دينية في هويتها وشرعيتها، لكن الجانب الدعوي صار أضعف

هذه اللحظة التاريخية فتحت الباب أمام تأسيس دولة مختلفة، فلم تعد السعودية معزولة، بل صارت جزءا من شبكة العالم، وربط النفط مصيرها بمصائر الدول العظمى، وفرض على قيادتها الانفتاح على الخارج وعدم الاستسلام لدعوات الانغلاق التي كان يرفعها بعض المتشددين.

التغير مع عبدالعزيز لم يكن في الجوهر الديني، بل في الشكل السياسي والامتداد الدولي والعلاقات بالعالم وتجاوز رؤية من يرون العالم كافرا. فقد أدخل مؤسسات إدارية حديثة، وأنشأ وزارات، ونظم جيشا، وربط الدولة بشبكة العالم الخارجي. وأقام صلات مع بريطانيا في بداياته، ثم اتجه إلى الولايات المتحدة، وكان لقاؤه مع الرئيس روزفلت عام 1945 علامة فارقة على دخول المملكة الناشئة في النظام الدولي الجديد.

ثم زادت أهمية النفط ليجعل من السعودية لاعبا استراتيجيا، وليحولها من إمارة محلية إلى دولة ذات أهمية عالمية. حتما هي لم تعد دولة دينية بالمعنى الكلاسيكي، لكنها لم تلغ الدين بل جمعت بينه وبين الحداثة السياسية كضرورة للبقاء والتأثير.

كان النفط نقطة تحول كبرى، إذ ربط السعودية بالعالم ربطا مباشرا، فصار ما يستخرج من باطن أرضها وقودا يدير مصانع الغرب وجيوشه واقتصاده. تغيرت الحياة جذريا، من اقتصاد محدود يعتمد على الزراعة والرعي والتجارة البسيطة، إلى اقتصاد نفطي يفتح أبواب التعليم والصحة والبنية التحتية والاتصال بالعالم الحديث. لم يعد هناك مجال للتقوقع والانغلاق الذي كان يريده بعض المتشددين من الفقهاء الذين رفضوا دخول غير المسلمين إلى البلاد. ولو أن الملك عبدالعزيز أطاع هؤلاء، لظل النفط حبيس الأرض إلى ما شاء الله، ولما خرجت المملكة من عزلتها لتصبح جزءا من النظام الدولي.

قرار الانفتاح المدروس الذي اتخذه عبدالعزيز كان لحظة فاصلة: حافظ على الشرعية الدينية التي يستند إليها حكمه، لكنه رفض أن يجعلها قيدا يحول دون دخول الخبراء والمهندسين وشركات النفط الأجنبية، ولو أنه فعل غير ذلك لبقيت المملكة في عزلة تنتظر الفرج من المستقبل. لقد كان البترول، إلى جانب الحكمة السياسية للملك، هما الجسر الذي ربط السعودية بالعصر، وأخرجها من حدود نجد والجزيرة إلى آفاق العالم كله.

بهذا المعنى، نستطيع أن نرى مسار الدولة السعودية كخط تطور فرضته التجارب. المرحلة الأولى كانت دينية إصلاحية توسعية، والثانية دينية أيضا لكنها انشغلت بالصراعات، ثم الثالثة مع عبدالعزيز، صارت مملكة حديثة أبقت على الدين روحا للشرعية، لكنها بنت مؤسسات وانفتحت على القوى العظمى. الدين لم يغب في أي مرحلة، لكنه كان يتخذ شكلا مختلفا بحسب السياق: في الأولى والثانية كان المحرك الرئيس، وفي الثالثة ظل المرجعية لكنه لم يعد هو الشكل الوحيد، إذ دخلت السياسة الحديثة والاقتصاد العالمي والعلاقات الدولية.

التغير مع الملك عبدالعزيز لم يكن في الجوهر الديني، بل في الشكل السياسي والامتداد الدولي والعلاقات بالعالم وتجاوز رؤية من يرون العالم كافرا

إذن، لا يمكن وصف الدولة السعودية الأولى والثانية إلا بأنهما دولتان دينيتان في جوهرهما، لم تتغير فيهما المرجعية ولا الأساس الشرعي، وإنما تغيرت درجة الحضور العملي للدعوة. أما مع عبدالعزيز فقد جاءت المملكة لتجمع بين الشرعية الدينية والقيادة السياسية الحديثة، فليست دينية بالمعنى الكهنوتي، بل مملكة عربية سعودية، حديثة البناء، صنعت لنفسها مكانا في العالم عبر الجمع بين الدين والسياسة في صيغة جديدة فرضتها التجارب والتحولات الدولية.

font change