لطالما انشغل الإنسان بمسألة السعادة والتعاسة، كأنهما قطبان يحددان قيمته وتجربته في الحياة، رغم أنهما مجرد حالتين ذهنيتين لا أكثر. يظن أن الوصول إلى السعادة أو تفادي التعاسة هو الهدف الأسمى، وأن الإنسان يعيش حياة متقلبة بين هذين القطبين. لكن النظر بعمق في طبيعة هذه المفاهيم يكشف أن ما نسميه سعادة أو تعاسة ليس إلا صورا سطحية لمشاعر تتولد في سياقات معينة، وأن الإنسان غالبا ما يطارد أوهاما تصنعها نفسه قبل أن تصنعها الحياة. فالسعادة التي نطمح إليها، والتعاسة التي نخاف منها، ليست كينونات مستقلة، بل هي انعكاسات لتصوراتنا الخاصة عن العالم وعن الذات، وهي في جوهرها مجرد مزاج يتغير بحسب ما يحمله الإنسان في ذهنه.
أول ما ينبغي تذكره في فهم هذا الأمر هو إدراك أن السعادة لا تتحقق دائما بالمكتسبات الخارجية. فالمال، أو المكانة الاجتماعية، أو العلاقات، رغم أهميتها، لا تكفل شعورا دائما بالارتياح. فالفقدان المؤقت أو التغير الطارئ في الظروف يكشف هشاشة هذه السعادة، لأنها قائمة على اعتقادات خارجية متقلبة. وهكذا، فإن سعادتنا تكون غالبا سعادة مشروطة، عرضة لأن تبددها أي طفرة صغيرة في الواقع، فتتحول سريعا إلى شعور بالتعاسة. في المقابل، التعاسة التي نشعر بها ليست دائما انعكاسا صريحا لضرر خارجي، أحيانا هي صناعة داخلية نتيجة لتوقعات غير واقعية، أو مقاومة طبيعة الحياة المتقلبة، أو الحكم المستمر على الذات وفق معايير متشددة.
التحرر من هذه الأوهام يبدأ بفهم أن مشاعر السعادة والتعاسة ليست أشياء يجب البحث عنها أو الهروب منها، بل حالات نمر بها، مؤقتة وعابرة، لا تحدد جوهر الإنسان. حين نتوقف عن اعتبار السعادة هدفا نهائيا، أو التعاسة كارثة لا تطاق، نفتح مساحة للفهم العميق للواقع كما هو، دون تصنع أو رفض. هنا يظهر الفرق بين تجربة الشعور الحقيقي وتجربة الانشغال بالمظاهر. الإنسان الذي يسعى وراء السعادة المفرطة أو يخشى التعاسة المبالغ فيها، غالبا ما يفقد القدرة على الانغماس الكامل في الحياة، لأنه مشغول بتقدير كل لحظة وفق معيار المتعة أو الألم، بدل أن يعيشها كحقيقة متكاملة.
التحرر من هذه الأوهام يبدأ بفهم أن مشاعر السعادة والتعاسة ليست أشياء يجب البحث عنها أو الهروب منها، لا تحدد جوهر الإنسان
من ثم، يصبح التحرر مسألة تدريب للوعي، لا مجرد رغبة في الهروب من المشاعر غير المرغوبة. التمرين الأول هو الملاحظة الصافية، مراقبة الأفكار والعواطف دون إصدار حكم فوري. فعندما يظهر شعور بالسعادة، يلاحظ كما هو، دون الانغماس فيه، وعندما يظهر شعور بالتعاسة، يحتضن دون مقاومة. هذه الممارسة تخلق نوعا من التوازن الداخلي، حيث لا تهتز النفس بسهولة لأي حدث، ولا تعلق بمظاهر مؤقتة. وينبغي أن نستحضر أن الأحداث اليومية هي مجرد وقائع ستظل تحدث كل يوم ولذلك يحسن أن لا نحولها إلى شعور بمشاعر سلبية.
الخطوة الثانية هي تحرير النفس من المقارنات التي تولد وهم السعادة والتعاسة. كثيرا ما نقيس حياتنا بالآخرين، أو نخلق صورا مثالية لما يجب أن يكون عليه الحال، ونقيس تجاربنا وفق هذا النموذج. هذا التقييم المستمر يحول الحياة إلى ساحة صراع داخلي، حيث الشعور بالتعاسة أو السعادة ليس إلا انعكاسا لفشلنا في تحقيق تلك الصورة المثالية. التحرر يعني قبول ما هو موجود، دون الحاجة إلى مقارنته أو الحكم عليه وفق معايير خارجية، ما يعيد إلى الإنسان القدرة على التجربة الحقيقية بلا قيود.
التحرر أيضا يستلزم الفهم العميق للزمن النفسي، السعادة والتعاسة ليست حالات ثابتة، بل لحظات عابرة ضمن تسلسل متصل للحياة. هذه اللحظات تتحرك وتتغير كما تتحرك الأمواج في البحر. إدراك ذلك يساعد على تخفيف التشبث بأي شعور محدد، ويمنح الإنسان قدرة على الصبر والثبات، دون أن يقوده تذبذب المشاعر إلى تصرفات اندفاعية أو أحكام متطرفة.
كما أن ممارسة التأمل والوعي اللحظي تتيح للإنسان أن يعيش كل تجربة بذاتها، متجاوزا الأحكام المسبقة عما يجب أن يكون. فالتأمل لا يهدف إلى إلغاء المشاعر أو حصرها، بل إلى إدراكها بشكل صافٍ، وهذا ما يخلق مساحة للتقبل الداخلي. هذا الوعي التدريجي يعيد ترتيب الأولويات النفسية ويعزز قدرة الإنسان على التفاعل مع الواقع بروح متفتحة ومرنة.
أخيرا، التحرر من وهم السعادة والتعاسة يتطلب تقبل الذات كما هي، والواقع كما هو، دون محاكاة أو تزييف. بتقبل نفسه يستطيع المرء أن يعيش حياته بصفاء ووعي أكبر، ويتفاعل مع العالم بلا خوف مفرط من الفقد، أو هوس بالصون.
التحرير لا يعني العدمية أو التجرد البارد، بل وعي هادئ شامل بأن كل شعور عابر، وأن الإنسان، من خلال هذا الوعي، يمكنه أن يعي الحياة بعمق أكثر
هذا الفهم يحرر الإنسان من الدوامة التي تولدها أوهام المشاعر، ويتيح له الانغماس الكامل في فعل الحياة نفسه، وليس فقط في النتائج الظاهرة أو المتوقعة. بهذه الطريقة، يصبح الإنسان قادرا على تجربة الحياة في جوهرها، بعيدا عن السعادة والتعاسة الوهميتين، ليصبح لكل لحظة قيمتها الخاصة، وللوجود حقيقته المستقلة عن أي تصورات مسبقة. إنه تحرير لا يعني العدمية أو التجرد البارد، بل وعي هادئ شامل بأن كل شعور عابر، وأن الإنسان، من خلال هذا الوعي، يمكنه أن يعي الحياة بعمق أكثر، دون أن يقوده تصور مضلل أو تطلعات مشوهة، ليعيش تجربة كاملة وحرة، قادرة على الاستمرار بصرف النظر عن المظاهر المؤقتة، بينما يظل قلبه وعقله منفتحين لكل لحظة من لحظات الحياة، بما فيها اللحظات الدقيقة التي تحمل في طياتها جمالا لا يقاس بالمقاييس المعتادة، فتتحقق تجربة الحياة الكاملة بمعناها الأعمق.