قد يتصور من يقرأ هيغل أنه يتحدث عن أرواح ثلاث (الروح الذاتية والروح الموضوعية والروح المطلقة)، بينما هو في الحقيقة يتحدث عن روح واحدة. لكننا لا نصل إلى هذا مباشرة، بل يصدمنا به ونكتشفه تدريجيا. ليست ثلاث أرواح منفصلة، بل ثلاث طرق لوعي الروح بنفسها. هناك الروح الذاتية ويمكن أن تتصورها هكذا: أنا كما أعيش نفسي من الداخل، أشعر بالجوع أو الخوف، وقد أحزن أو أفرح، وأستطيع أن أقول أنا أشعر، أنا أريد، أنا أفكر، وهنا أصف العالم بأنه خارجي، وأنا داخلي. وهكذا يكون الوعي فرديا ونفسيا، ويمكن أن يكون قلقا أو منغلقا.
أما الروح الموضوعية فيمكن أن تتصورها هكذا: أنا كما أوجد فعليا مع الآخرين وفي المؤسسات. أنا زوج أو أب داخل أسرة، أنا مواطن في دولة وتحكمني قوانين. أملك وأتعاقد وألتزم وأمارس حقي وأحترم حق غيري. هنا الحرية لم تعد شعورا داخليا، بل نظاما معيشا. والقانون ليس قيدا بل تنظيما للإرادة.
الحالة الثالثة هي الروح المطلقة. يقول هيغل: "الروح المطلقة تتجلى في الفن والدين والفلسفة". ولك أن تتصورها هكذا، هي الروح حين تنظر إلى نفسها وتفهم معناها كله. أفهم نفسي عبر عمل فني، أؤمن بالحقيقة عبر الدين، أفهم الحقيقة عقليا عبر الفلسفة. هنا لا أعيش فقط، بل أفهم ما أعيشه. ابتداء من الألم وانتهاء بالتاريخ والصراع، كلها تفهم بوصفها لحظات ذات معنى. ولنا أن نضرب على ذلك مثالا واحدا جامعا، بإنسان فقد عزيزا. في الروح الذاتية يتجلى الحزن والألم والصدمة، وفي الروح الموضوعية نجد طقوس العزاء والتضامن الاجتماعي وإجراءات القانون. وفي الروح المطلقة يفهم معنى الفقد في الفن، أو في الدين، أو في التفكير الفلسفي
الروح الذاتية تقول: أعيش. والروح الموضوعية تقول: أعيش مع الآخرين. والروح المطلقة تقول: أفهم ما أعيشه. هكذا يتضح التصور دون تشويش أو تجريد زائد.
ولنا أن نسأل عن وعي الروح بنفسها كما يتحدث عنه هيغل، هل يقصد الذاتية ام الموضوعية أم المطلقة؟ هذه العبارة لا تعني الوعي الفردي فقط ولا الوعي الكلي فقط، بل علاقة جدلية بينهما. أولا، على مستوى الذاتية، الروح تعي نفسها كأنا فردية، لكن هذا الوعي ناقص، لأنه يضعني في مقابل العالم. ثانيا، على مستوى الكلية، الروح تعي نفسها كعقل متحقق في التاريخ والقوانين والمؤسسات، هذا هو مستوى الروح الموضوعية. وتعي نفسها في الفن والدين والفلسفة، أي في الروح المطلقة. وهنا الوعي اكتمل، لأنه يتجاوز الفرد المعزول، ويتجاوز الوعي الموضوعي أيضا.
لكن النقطة الحاسمة عند هيغل هي أن الفرد ليس نقيضا للكل، بل هو طريق الكل إلى وعي ذاته. الفرد يعيش والكل يفهم، ولا يكتمل الفهم إلا بمرور التجربة الفردية والموضوعية. لذلك وعي الروح بنفسها يبدأ فرديا ثم يتحقق اجتماعيا ثم يكتمل كليا. الخلاصة أن الوعي عند هيغل فردي في التجربة، كلي في المعنى. والروح لا تعرف نفسها إلا حين يلتقي الاثنان.
في الروح الذاتية يتجلى الحزن والألم والصدمة، وفي الروح الموضوعية نجد طقوس العزاء والتضامن الاجتماعي وفي الروح المطلقة يفهم معنى الفقد
يمكن القول إن هذا هو أحد المفاتيح الأساسية لقراءة هيغل دون سوء فهم. إنه لا يتحدث عن أرواح متجاورة أو مستويات منفصلة، بل عن روح واحدة تتكشف عبر لحظات مختلفة من وعيها بذاتها. في البداية يبدو الأمر كما لو كانت هناك: روح نفسية فردية، وثانية: روح اجتماعية، وثالثة: روح مطلقة، لكن هذا التعدد ظاهري وتعليمي، هدفه الشرح لا التقسيم الوجودي. مع التقدم في القراءة، يتضح أن الروح واحدة، وما يتغير هو طريقة حضورها لنفسها. نكتشف ذلك تدريجيا لأننا في الروح الذاتية نعيش الانقسام، وفي الروح الموضوعية نخفف الانقسام. فقط في الروح المطلقة نفهم أنه لم يكن هناك انقسام أصلا. هيغل لا يقسم الروح، بل يقسم طريق فهمها.
وأخيرا، لا يكتمل هذا التصور إلا بإدخال عنصر التاريخ بوصفه بعدا حاسما في وعي الروح بنفسها. فالروح عند هيغل لا تعي ذاتها دفعة واحدة، ولا تمتلك معناها كاملا منذ البداية، بل تتكون عبر مسار تاريخي طويل. التاريخ هنا ليس سلسلة وقائع متتابعة، ولا مجرد إطار زمني محايد، بل هو المجال الذي تتعلم فيه الروح أن ترى نفسها وتختبر حدودها وتفهم أخطاءها وانقساماتها وصراعاتها.
في الروح الذاتية، يعيش الفرد تجربته بوصفها آنية وخاصة، يشعر بالألم والفرح والخوف دون أن يفهم معناها الكلي، وتبدو له الحياة سلسلة أحداث متفرقة. مع الانتقال إلى الروح الموضوعية، تتحول هذه التجارب الفردية إلى صيغ مشتركة، أعراف وقوانين ومؤسسات، تنشأ تاريخيا استجابة لحاجات البشر وصراعاتهم. هنا يبدأ التاريخ بالظهور بوصفه عقلانية متحققة، لا في رأس فرد، بل في أنماط عيش جماعية.
أما في الروح المطلقة، فإن الروح لا تعيش التاريخ فقط، بل تفهمه. تنظر إلى مسارها السابق بوصفه طريقا ذا معنى، ترى في الصراع ضرورة، وفي الألم لحظة تعليم، وفي الانقسام شرطا للفهم الأعمق. الفن والدين والفلسفة لا تلغي التاريخ، بل تعيده إلى الوعي في صورة معنى، وتكشف أن ما عيش بوصفه مأساة أو عبثا، لم يكن خارج مسار الفهم، بل داخله.
التاريخ هنا ليس سلسلة وقائع متتابعة، ولا مجرد إطار زمني محايد، بل هو المجال الذي تتعلم فيه الروح أن ترى نفسها
ومن هنا لا يكون اكتمال الروح حدثا خارج الزمن، بل بلوغا للقدرة على المصالحة مع المسار كله، بما فيه من صراع وتناقض وانكسار. فالحقيقة عند هيغل لا تعطى دفعة واحدة، ولا تكتشف في لحظة صفاء مجردة، بل تنتزع من الحركة نفسها، حين يصير ما كان مأزوما مفهوما، وما كان أعمى أصبح دليلا. عند هذه النقطة فقط يغدو التاريخ مفهوما، لا بوصفه ما مضى، بل بوصفه ما أمكن أخيرا فهمه.