الكتابة التلقائية عند بليك

الكتابة التلقائية عند بليك

تستخدم عبارة الكتابة التلقائية عادة للدلالة على نمط من الكتابة يتجاوز التخطيط المسبق والرقابة العقلية الصارمة، حيث يبدو النص منبثقا من طبقة أعمق من الوعي. غير أن هذا المفهوم كثيرا ما أسيء فهمه واختزاله، فربط بالاندفاع غير الواعي أو التفريغ النفسي، أو حصر في تجارب حداثية متأخرة، خصوصا لدى السورياليين. والحال أن الكتابة التلقائية، في معناها الأوسع، أقدم من ذلك بكثير، وقد ارتبطت تاريخيا بممارسات رؤيوية ودينية وصوفية، وشعرية، كان فيها الكاتب أو الشاعر يشعر بأنه لا يخلق النص بقدر ما يتلقاه.

في هذا السياق، لا تكون التلقائية نفيا للوعي، بل تعليق مؤقت لهيمنة العقل الأداتي، وإفساح للمجال أمام أشكال أخرى من الإدراك، قوامها الحدس والرؤيا والرمز. فالكاتب التلقائي لا يكتب من فراغ، بل من امتلاء سابق، ومن انخراط كلي في تجربة تتجاوز الذات الفردية دون أن تمحوها. ولهذا ارتبط هذا النوع من الكتابة دائما بأسئلة الوحي والإلهام والكشف وحدود اللغة وحدود العقل نفسه.

ضمن هذا الأفق الواسع، تبرز تجربة ويليام بليك بوصفها واحدة من أكثر تجارب الكتابة التلقائية عمقا وتعقيدا، لأنها لا تختزل التلقائية في التقنية، بل تجعلها جوهر رؤية كاملة للعالم والإنسان واللغة.

الكتابة التلقائية عند ويليام بليك لا تعني انسيابا لغويا عفويا أو تفريغا نفسيا غير مضبوط، كما سيغدو لاحقا عند السورياليين، بل تشير إلى تجربة مركبة ذات عمق روحي ومعرفي، تقع في منطقة وسطى بين الرؤيا الصوفية والإلهام الرؤيوي والخلق التخييلي الأقصى. فالكتابة عند بليك ليست ممارسة تقنية، ولا لعبة أسلوبية، بل حدث وجودي كامل، تنخرط فيه الذات بوصفها موضع عبور لا مركز سيطرة. لم يكن بليك يرى نفسه مؤلفا بالمعنى الحديث للكلمة، بل كان يعتبر نفسه وسيطا، أو قناة تنطق عبرها قوى أعلى، وأصوات غير منظورة، تملي عليه القصيدة كما تملي عليه الصورة، في وحدة لا تنفصل فيها الكلمة عن الرؤية البصرية.

الكتابة عند بليك ليست ممارسة تقنية، ولا لعبة أسلوبية، بل حدث وجودي كامل، تنخرط فيه الذات بوصفها موضع عبور لا مركز سيطرة

يروي بليك مرارا أن قصائده الكبرى لم تكن ثمرة تخطيط عقلي هادئ أو بناء مسبق، بل جاءت نتيجة لحالات استغراق عميقة، كان يشعر فيها بأن الكلمات تكتب فيه لا منه. وهو يصف هذه اللحظات بوصفها نوعا من الإملاء الداخلي، حيث تتشكل الرموز، والشخصيات، والعوالم الأسطورية أمامه كأنها واقع حي. من هنا ظهرت كتبه الرؤيوية بوصفها عوالم مكتملة، لا نصوصا شعرية فحسب، عوالم تتحرك فيها قوى الخلق، والسقوط، والخلاص، ضمن دراما كونية ذات طابع روحي وأخلاقي عميق.

غير أن الكتابة التلقائية عند بليك لا تعني فقدان الوعي أو الغرق في الغموض، بل هي توسيع جذري لحقل الوعي. فالعقل، في تصوره، ليس المصدر الأعلى للمعرفة، بل أداة محدودة قد تتحول إلى قيد يحجب الرؤية إن استبد بالإنسان. ولهذا كان شديد العداء للعقل الأحادي، لأنه يفصل الإنسان عن قدرته على الرؤية. في المقابل، رأى أن الخيال هو عين الروح، وأن الرؤية الخيالية أصدق من الإدراك الحسي، لأنها تنفذ إلى جوهر الأشياء لا إلى مظاهرها فقط.

من هنا تصبح الكتابة التلقائية فعلا تحرريا، تحررا من رقابة العقل الأداتي، لا غيابا للعقل ذاته، واستجابة لصوت داخلي يتجاوز الذات الفردية دون أن يلغيها.

وما يميز تجربة بليك أن هذه التلقائية لا تلغي الصنعة الفنية، بل تتكامل معها. فرغم حديثه عن الإملاء والرؤيا، كان يعيد نقش نصوصه بيده، ويطبعها، ويزينها برسوم دقيقة، مما يدل على أن التلقائية عنده ليست فوضى، بل لحظة انبثاق أولى يعقبها وعي فني صارم. إنها ولادة للرؤيا، ثم تهذيب لها، حيث تتحول التجربة الداخلية إلى نظام رمزي متماسك.

بليك ليس مجرد شاعر غامض، بل شاهد على إمكانية أن تتحول الكتابة إلى فعل كشف، وأن يصبح الشاعر ممرا تعبر فيه الحقيقة، وليس صانعا لها فحسب

بهذا المعنى، تغدو الكتابة التلقائية عند ويليام بليك أقرب إلى تجربة كشفية في جوهرها، لا إلى ممارسة نفسية آلية. فهي انفتاح على مستوى آخر من الواقع، حيث تتلاقى اللغة بالخيال، والرؤيا بالرمز، والإنسان باللامرئي. ومن هنا جاءت نصوصه عصية على التفسير السطحي، لأنها لا تخاطب العقل وحده، بل توقظ الحواس الروحية وتستدعي مشاركة القارئ التأملية. إن بليك، بهذا كله، ليس مجرد شاعر غامض، بل شاهد على إمكانية أن تتحول الكتابة إلى فعل كشف، وأن يصبح الشاعر ممرا تعبر فيه الحقيقة، لا صانعا لها فحسب.

font change