العاطفة بوصفها مصدرا للمعرفة

العاطفة بوصفها مصدرا للمعرفة

استمع إلى المقال دقيقة

منذ فجر الفكر الإنساني، جرى النظر إلى العقل على أنه أداة المعرفة الأسمى، والميزان الذي توزن به الحقائق، والمصباح الذي يبدد ظلمات الجهل. غير أن هذا التصور، على صلابته، يظهر نصف الحقيقة فقط. فالعقل يحلل ويقيس ويستنتج، لكنه لا يتحرك إلا إذا أضاءته شرارة العاطفة. ولعل الخطأ الذي طالما تكرر في تاريخ الفكر هو الفصل بين العقل والشعور، كأن الإنسان يمكن أن يعرف بعقله وحده من غير أن يرغب أو يحب أو يخاف أو يأمل. والحقيقة أن العاطفة ليست نقيضا للمعرفة، بل أصلها الحي، ونبعها الأول.

العاطفة ليست انفعالا عابرا كما يظن كثيرون، بل هي طريقة في رؤية العالم. فكل حب أو خوف أو دهشة أو حنين يغير طريقة نظرنا إلى الأشياء، ويكشف لنا من العالم وجها لا يراه العقل البارد. حين يشتعل القلب بشعور ما، يتبدل ترتيب الأشياء في نظرنا، فتصير بعض التفاصيل ذات مغزى عميق، وبعضها الآخر يفقد قيمته. العاطفة لا تضيف معلومة جديدة فحسب، بل تغير بنية الوعي ذاته، فتجعل الإنسان يلمس المعنى كما يلمس الجسد حرارة النار.

وقد ظن الفلاسفة طويلا أن المعرفة الحقة هي تلك التي تنفصل عن الانفعال، كأن صفاء الذهن لا يتحقق إلا حين يسكت الإنسان صوته الداخلي. لكن هذا الصمت العاطفي لا يولد إلا الجفاف. فالحقيقة لا تدرك إلا حين نشارك فيها بكامل كياننا، ككل واحد، لا بعقولنا وحدها. نحن لا نعرف الشيء إلا إذا تأثرنا به، ولا نصل إلى جوهره إلا حين نرتجف إزاءه. والعاطفة هي التي تمنح الأشياء حرارة الوجود، وتجعل المعرفة فعل حياة لا مجرد تكديس معلومات.

العلم الطبيعي نفسه، الذي يقوم على التجربة والملاحظة، لا ينشأ في فراغ وجداني. فالاكتشاف لا يولد من الحساب وحده، بل من الدهشة، وهي عاطفة الفكر الأولى. أرخميدس لم يصرخ "وجدتها" لأنه أجرى حسابا باردا، بل لأن انفعال الفرح بالانكشاف فجّر فيه لحظة وعي جديدة. وكذا نيوتن حين اكتشف قانون الجاذبية، كان في حالة شغف وتساؤل جعلته يرى فيما يغفل عنه الناس كل يوم، قانونا كونيا. هذه الومضات التي تغير وجه العلم لا تصدر عن المنطق، بل عن انفعال حي يربط العقل بالعالم.

أرخميدس لم يصرخ "وجدتها" لأنه أجرى حسابا باردا، بل لأن انفعال الفرح بالانكشاف فجر فيه لحظة وعي جديدة

وحين نتأمل في الفنون، نجد أن العاطفة هي جوهر المعرفة الجمالية. فاللوحة أو القصيدة أو المقطوعة الموسيقية ليست درسا في المنطق، بل طريقة لإدراك ما لا يقال. الجمال نفسه ضرب من المعرفة، لكنه لا ينال بالتفكير التحليلي، بل بالانفعال الذي يفتح الحواس على المعنى. الفن يعلمنا أن نرى بالوجدان، وأن نعرف بالدهشة. فحين نقف أمام عمل فني صادق، لا نسأل كيف رسم أو بأي لون، بل نحس برجع صدى، وأن شيئا فينا نحن قد انكشف. تلك المعرفة لا تبرهن، لكنها أعمق من كل برهان.

العاطفة أيضا تكشف لنا عن ذواتنا أكثر مما يفعل التفكير المنطقي. فالإنسان قد يقضي عمرا يبرر أفعاله بعقله، لكنه لا يعرف نفسه إلا عندما يتألم أو يحب أو يشتاق. في لحظات الشعور القصوى تتجلى الحقيقة الداخلية للإنسان، إذ تسقط الأقنعة جميعها، وتظهر النواة الأصيلة للوعي. العاطفة هنا ليست ضعفا، بل تجربة مع الوجود، إذ تضع الإنسان وجها لوجه أمام ما هو عليه حقا. ومن هذه المواجهة تنبثق معرفة لا يمكن تحصيلها من الخارج.

وإذا نظرنا إلى تاريخ الفلسفة الأخلاقية، وجدنا أن العاطفة كانت دائما وراء التمييز بين الخير والشر. فالعقل يستطيع أن يضع القوانين، لكنه لا يمنح الدافع للالتزام بها. الرحمة، والغيرة على العدالة، والإحساس بالذنب، هي قوى وجدانية تمنح القانون حياة. فالمعرفة الأخلاقية ليست نظرية في السلوك، بل خبرة وجدانية بالآخرين، تبدأ من القدرة على التعاطف، أي من أن نحس بآلام المسحوقين كما نحس بآلامنا. بهذا المعنى، العاطفة هي المعلم الأول للأخلاق، لأنها تفتحنا على ما يتجاوز أنفسنا.

أما في مجال الإبداع الفكري، فإن أخصب الأفكار تولد حين تمتزج العاطفة بالتفكير. المفكر الذي يكتب بقلب لا يكتفي بتجميع المفاهيم، بل يخلق من خلالها عالما جديدا. إن العاطفة في الفكر ليست انفعالا يعكر صفاء المنطق، بل طاقة تجعل الفكرة حية. كثير من الاكتشافات الكبرى بدأت بإحساس عميق بالنقص أو بالظلم أو بالدهشة، ثم تحولت إلى نظرية أو مذهب. فالعاطفة هي البذرة، والعقل هو الأداة التي تنميها.

العاطفة أيضا تسبق اللغة، فهي التي تجعل الكلمة ممكنة. قبل أن ينطق الإنسان، كان يحس، ومن الإحساس نشأت الحاجة إلى التعبير. فكل كلمة أصلها صرخة أو تنهيدة أو أنّة، وكل فكر عميق يحمل في جذره إحساسا سابقا. لذلك فإن فهم الإنسان للعالم يظل ناقصا ما لم يفهم مشاعره ابتداء، لأن الشعور هو اللغة الأولى التي تحدث بها الكائن مع الوجود. العاطفة إذن ليست عائقا أمام المعرفة، بل طريق على دروبها. إنها تنضج الإدراك وتوسع أفق الوعي، لأنها تدمج الإنسان بما يعرفه، فلا يبقى ناظرا من الخارج بل مشارك من الداخل. ومن هنا كانت أعمق المعارف تلك التي تمر عبر التجربة الوجدانية، معرفة الحزن والحب والفقد، لأنها تكشف لنا ما لا يستطيع التحليل البارد أن يبلغه.

فهم الإنسان للعالم يظل ناقصا ما لم يفهم مشاعره ابتداء، لأن الشعور هو اللغة الأولى التي تحدث بها الكائن مع الوجود

وفي النهاية، يمكن القول إن المعرفة لا تكون كاملة إلا حين تتحد فيها طاقة العاطفة بصفاء الفكر. فالعقل من دون عاطفة آلة صامتة، والعاطفة من دون عقل نهر بلا ضفاف. لكن حين يتصادق الاثنان، يولد وعي خصب يرى الأشياء في حيويتها، ويشعر بها في عمقها، ويحولها إلى معنى. إن الإنسان لا يعرف حقا إلا ما أحبه، لأن الحب هو الذي يفتح عينيه على جوهر الأشياء. ومن هنا يمكن القول إن العاطفة ليست ظل المعرفة، بل هي نورها الأول.

font change