العقل خادم العواطف

العقل خادم العواطف

استمع إلى المقال دقيقة

منذ فجر التفكير الفلسفي، جرى تمجيد العقل بوصفه السيد الأعلى، فيما نظر إلى العاطفة على أنها عنصر متمرد يجب ضبطه أو كبحه. هذا الإرث الذي رسخته الفلسفة العقلانية من ديكارت إلى كل من منح العقل سلطة الحكم المطلقة، ظل مهيمنا قرونا طويلة. غير أن التجربة الحديثة قلبت هذه المعادلة، لتكشف أن العقل لا يعمل في فضاء نقي، بل هو أداة ضمن شبكة من الدوافع والرغبات الأعمق من ذاته.

في هذا التحول، يبرز ديفيد هيوم، الذي وجه ضربة حاسمة إلى سلطة العقل حين قال عبارته الشهيرة: "العقل عبد للعواطف". في كتابه "رسالة في الطبيعة الإنسانية" (1739–1740)، كتب هيوم: "العقل هو، ولا ينبغي أن يكون إلا عبدا للعواطف، ولا يمكن أن يدعي لنفسه أي دور سوى أن يخدمها ويطيعها". لم تكن الجملة مجرد ملاحظة سيكولوجية، بل ثورة فلسفية كاملة أطاحت بصورة العقل كحاكم، وأعادته إلى موضعه الطبيعي كخادم للغرض والرغبة.

فالعقل عند هيوم لا يبتكر الغايات، بل يكتفي بتدبير الوسائل إليها. الرغبات هي التي تصدر الحكم الأول، ثم يأتي العقل ليبرر ويخطط وينظم، فيتحول إلى أداة تنفيذ وتبرير، لا إلى مصدر المبادرة. ومن هنا صار العقل عنده جهازا وظيفيا في خدمة العاطفة، لا سلطة متعالية عليها.

وفي القرن التاسع عشر جاء نيتشه ليذهب أبعد من ذلك. فقد رأى أن الميتافيزيقا، وكل أنساق الفلسفة التقليدية، ليست إلا تعبيرات عن حاجات نفسية مقنعة. ما منحها قيمتها لم يكن صدقها الموضوعي، بل ما ارتبط بها من رغبة وشغف وخداع للنفس. حين يتحدث الفيلسوف عن "الجوهر الثابت"، فليس ما يحركه البرهان العقلي، بل خوفه من التغير وحاجته إلى معنى يبدد هشاشة الوجود. وهكذا، بالنسبة لنيتشه، تصبح الفلسفة مسرحا للرغبات أكثر منها مرآة للحقيقة.

العقل عند نيتشه ليس قوة سيادية، بل تابع داخل شبكة من الإرادات الحيوية. إنه خادم يتقن فن التبرير بعد أن تصدر العاطفة حكمها. والمنطق الذي يتزين به ليس سوى قناع يخفي دوافع الغريزة، التي هي المحرك الحقيقي للفعل الإنساني. ومن هنا فقد أسقط نيتشه عن العقل هالة السيادة، وجعله أداة في يد الحياة نفسها.

كون العقل تابعا لا يعني أنه بلا قيمة. على العكس، فإن وعي الإنسان بهذه التبعية هو الذي يمنحه قدرة أكبر على التحرر من خداعها

هذا الفهم يجر نتائج بعيدة المدى. فإذا كان العقل خادما للعاطفة، فإن كل منظومة فكرية أو ميتافيزيقية ليست إلا صورة وجدانية تعبر عن حاجات النفس قبل أن تكشف عن بنية العالم. وهو ما يتوافق مع ما يقوله علم النفس الحديث عن أن القرار يتخذ في مناطق انفعالية من الدماغ قبل أن يعيه العقل الواعي. إن العقل لا يبدأ المسرحية، بل يكتب حوارها بعد أن ترفع الستارة.

لكن كون العقل تابعا لا يعني أنه بلا قيمة. على العكس، فإن وعي الإنسان بهذه التبعية هو الذي يمنحه قدرة أكبر على التحرر من خداعها. حين يدرك أن عقله خادم لرغباته، يستطيع أن يواجه تلك الرغبات بصدق بدلا من أن يختبئ وراء مبررات منطقية. وهكذا، لا يصبح نقد هيوم ونيتشه دعوة إلى الفوضى العاطفية، بل إلى الصدق الوجودي، وإلى تفكيك وهم "العقل السيد" الذي صنعته الفلسفة القديمة.

إن عبارة "العقل خادم العواطف" ليست إهانة للعقل، بل إعادة له إلى مكانه الطبيعي في البنية الإنسانية. فالعقل ملكة بشرية تعمل داخل منظومة من الدوافع والانفعالات، وليس قوة مفصولة عن الجسد والوجدان. فقبولنا لهذه الحقيقة يحررنا من الميتافيزيقا الزائفة التي تتحدث باسم "العقل الخالص"، ويقربنا من رؤية أصدق لطبيعتنا، أن الإنسان يفكر بما يشعر، ويبرر ما يرغب، وأن العقل مهما بلغ من اتزان، لا يحدد الغاية، بل يضع الوسيلة في يد من يملك الشغف أولا.

ولا تعني إعادة ترتيب العلاقة بين العقل والعاطفة تسليم القيادة للانفعال الأعمى، بل تعني الاعتراف بالبنية الكاملة للإنسان كما هي. فالعاطفة تمنح الوجود معناه، والعقل يمنحه اتساقه، ولا معنى لأحدهما دون الآخر. حين ننكر العاطفة، نصبح آلات تفكر في فراغ، وحين نهمل العقل، نصير شهوات رعناء بلا بوصلة. ووعي الإنسان الحديث بحاجة إلى مصالحة بين هذين القطبين، ليدرك أن العقل لا يستمد نوره من ذاته، بل من حرارة الشعور الذي يغذيه. وربما يكون هذا هو المعنى الأعمق لعبارة هيوم ونيتشه معا، أن خلاص الإنسان لا يكون في أن يختار بين العقل والعاطفة، بل في أن يعرف موضع كل منهما في كيانه، فيجعل من العاطفة مصدر الدفء، ومن العقل أداة الضوء، لتتوازن الحياة بين ما يشعلها وما يهديها في آن واحد.

التوازن بين الفكرة والشغف، هو جوهر الإنسانية نفسها، وهو الذي يجعل الإنسان قادرا على أن يفكر بعمق، ويشعر بصدق، ويعيش بوعي

لا ينبغي أن يورثنا إدراكنا لتبعية العقل للعاطفة شعورا بالانهزام، بل وعيا أعمق بالإنسان ككائن معقد تتحرك فيه القوى بترتيب خفي. فالعاطفة ليست خصما للعقل، بل هي المجال الذي يولد فيه الفكر، مثلما يولد الضوء من حرارة النار. وإذا كان العقل يضع الخطط ويقيس العواقب، فإن العاطفة هي التي تمنح الأفعال معناها واتجاهها. من هنا يمكن القول إن التقدم الإنساني لا يتحقق حين يقمع الإنسان عاطفته، بل حين يروضها ويحولها إلى طاقة خلاقة. فالعواطف الراقية كالرحمة والحب والغيرة على العدالة، هي التي أنجبت الفلسفة والفن والأخلاق. والعقل الذي ينفصل عنها يتحول إلى آلة باردة، والعاطفة التي تنفلت من وعيه تتحول إلى فوضى. لذلك، فإن التوازن بين النور والحرارة، بين الفكرة والشغف، هو جوهر الإنسانية نفسها، وهو الذي يجعل الإنسان قادرا على أن يفكر بعمق، ويشعر بصدق، ويعيش بوعي.

font change