حين نتأمل فكرة الأمل في الفكر المعاصر، نجد أنفسنا إزاء تقاطعين بارزين. هناك هايدغر الذي جعل من الخطر مقامًا للفكر، ودريدا الذي أراد أن يجرّد هذا الفكر من أي بقايا تفاؤلية أو خلاصية. عند هايدغر لا يظهر الأمل كموضوع مستقل، أو مصطلح خاص، لكنه يطلّ من ثنايا نصوصه، وبالأخص في عبارته الشهيرة: "حيث يكمن الخطر، هناك ينمو ما يُنقذ".
هذه العبارة تكثّف رؤيته المزدوجة للعصر الحديث. من جهة، تهدد التقنية بأن تحجب الحقيقة نهائيًا، إذ تجعل كل شيء موردًا قابلاً للاستغلال، وتغلق أمام الإنسان طرقًا أخرى للفهم. ومن جهة أخرى، في قلب هذا التهديد الأعظم، ينفتح أيضًا إمكان آخر، أن يوقظنا الخطر إلى حقيقة الوجود ويحررنا من أسر الميتافيزيقا. لكن هذا الإمكان ليس وعدًا يقينيًا، ولا خلاصًا دينيًا، بل مقامرة وجودية بلا ضمانة: قد ينفتح الأفق الجديد، وقد يشتدّ ليل العالم قتامة. هايدغر يضع الإنسان أمام مصير مأساوي مفتوح، لا أمام رجاء ميتافيزيقي.
الأمل عنده إذن هو إمكانية داخل الخطر، لكنه لا يحمل يقينًا، بل يعيش على الحدّ الفاصل بين الانكشاف والانغلاق.
أما دريدا، فقراءته لخطاب هايدغر تأخذ اتجاهًا آخر. هو يرى أن مثل هذه العبارة، رغم طابعها المأساوي، لا تزال تخبئ في طياتها بقايا رجاء ميتافيزيقي: فقول الأول: "ينمو ما يُنقذ" يوحي بوجود خلاص كامِن أو وعد ضمني بأن النجاة حاضرة في قلب التهديد. بالنسبة لدريدا، هذا يعني أن هايدغر لم يتحرر تمامًا من نزعة الرجاء التي تَعِد بالمعنى أو بالخلاص، وكأن في النهاية هناك ما يضمن أن الوجود لن يُحتجب كلية. التفكيك، على العكس، يسعى إلى كسر هذا الأفق: فلا خلاص ينتظر، ولا أمل يتأسس على وعد. كل حضور مؤجل، وكل انكشاف معرض للغياب، ولا يوجد يقين يمكن الاتكاء عليه.
التفكيك يعيش على الاختلاف، والتأجيل المستمر، حيث لا أفق نهائيا للمعنى ولا مخرج مضمون. ومن هنا فإن الأمل، بالمعنى الهايدغري، يظهر عند دريدا كأثر ميتافيزيقي يجب تفكيكه. لكن مقارنة الأمل بين هايدغر ودريدا لا تقتصر على تحليل عباراتهما، بل تمتد إلى تصور أوسع لمصير الفكر الغربي. فهايدغر، وهو يعلن نهاية الميتافيزيقا، لا يغلق الباب أمام إمكانية أن ينبثق فجر جديد للتفكير.
إذا كان هايدغر يقف عند العتبة بين المأساة والأمل، فإن دريدا يدفع بالفكر إلى عالم لا يعرف وعدًا ولا رجاء، عالم لا يُعوَّل فيه على انكشاف مخلِّص، بل فقط على حركة تفكيك لا تهدأ
صحيح أنه يتحدث عن ليل العالم وعن انغلاق الحقيقة في قبضة التقنية، لكنه في الآن نفسه يترك فسحة للانتظار: انتظار كلمة من الشعر، أو إشراقة من الفكر، قد تفتح أفقًا آخر للحقيقة. وهذا الانتظار، وإن لم يسمّه هايدغر صراحة "أملًا"، إلا أنه يتضمن موقفًا أنطولوجيًا أقرب إلى الترقب لما قد يجيء، وكأن الفكر، حتى في ذروة الأزمة، لا يستسلم تمامًا لليأس. إن الأمل عنده ليس وعدًا ميتافيزيقيًا، بل هو ذلك الانفتاح الحذر على إمكانية انكشاف مختلف، على حدث قد يحدث أو لا يحدث.
ومن هنا نفهم سر جاذبية عبارته الشهيرة: فهي تقول إن الخطر يحمل في ذاته إمكانية النجاة، لكنها لا تَعِد بشيء، إنها تترك الباب مواربًا، لا أكثر. أما دريدا، فموقفه أكثر راديكالية. فهو يرى أن هذا الانتظار نفسه يعيد إنتاج بنية الرجاء، حتى لو جُرّد من أي ضمانة. فمجرد القول إن الخلاص قد ينبثق من قلب الخطر هو، في نظره، تسليم ضمني بوجود وعد ما، أو بقاء أثر لرجاء ميتافيزيقي لم يُستأصل جذريًا. لذلك يرفض دريدا حتى هذا النوع من الأمل الهش. بالنسبة له، لا يوجد أفق خلاص، بل سلسلة لا تنتهي من الاختلافات والتأجيلات، حيث كل حضور يظل معلّقًا في غياب لا يُردم، وكل معنى مؤجل بلا نهاية.
فإذا كان هايدغر يقف عند العتبة بين المأساة والأمل، فإن دريدا يدفع بالفكر إلى ما وراء هذه العتبة: إلى عالم لا يعرف وعدًا ولا رجاء، عالم لا يُعوَّل فيه على انكشاف مخلِّص، بل فقط على حركة تفكيك لا تهدأ. وهكذا، يتضح أن الأمل، الذي بدا عند هايدغر خيطًا رفيعًا من الانفتاح في قلب الأزمة، يتحول عند دريدا إلى أثر ينبغي فضحه، إلى بقايا خطاب يجب أن يُعرّى من كل ادعاءاته.
الفارق بينهما إذن ليس مجرد مسألة نفسية أو لغوية، بل هو فارق في الموقف من التاريخ والفكر ذاته، هل يمكن للإنسان أن يظل منفتحًا على إمكانية لم تأتِ بعد، أم إن عليه أن يتخلى حتى عن هذا الانتظار، ليواجه عالمًا لا يمنح أي رجاء ولا أي وعد؟ هنا تكمن أهمية الحوار بين هايدغر ودريدا، إنه يضعنا أمام سؤال جوهري عن مصير الفكر، عن جدوى الانتظار، وعن الحد الفاصل بين الانفتاح المأساوي على المجهول والقبول الجذري باللايقين المطلق.