قد يبدو للوهلة الأولى أن فريدريك نيتشه، الفيلسوف الألماني المتمرد الذي توفي في سنة 1900، لا صلة له بنجد ولا بالجزيرة العربية ولا بما شهدته من حركات دينية وسياسية كبرى. لكن قراءة الفقرة (43) من كتابه "العلم المرح" تكشف مفاجأة لافتة، حيث وجدنا اسم "الوهابية" قد تسلل إلى نص فلسفي أوروبي في القرن التاسع عشر، ليصبح مثالا حيا على فكرة نيتشه عن أن القوانين لا تعبر عن جوهر الشعوب، بل عن خوفها من الغريب والمختلف. فالقوانين عنده لا تعنى بما هو مألوف، بل بما ينظر إليه بوصفه دخيلا يهدد الأعراف.
ومن هنا يستشهد بالوهابيين، الذين لم يروا من الكبائر إلا اثنتين (على حد زعمه)، عبادة إله غير الله، والتدخين الذي سموه "شرب المخزي". ولما سأل إنكليزي متعجبا عن موقفهم من كبائر أخرى، أجاب محدّثهم المسنّ، "الله غفور رحيم". ثم يقارن نيتشه ذلك بالرومان القدماء الذين حصروا خطايا النساء في الزنا وشرب الخمر، حتى إن عادة التقبيل بين الأقارب اعتبرت وسيلة للتأكد من أنفاس النساء، وقد حكم على زوجات بالموت لمجرد أنهن ضبطن يشربن. لم يكن الأمر عند الرومان خشية من الخمر في ذاته، بل من الروح الديونيسية الغريبة التي تهدد أسس الهوية الرومانية.
من هذه المقارنة يستخلص نيتشه فكرته القائلة بأن القانون أشد ما يكون صرامة حين يواجه ما يراه دخيلا يهدد العادات، وأن الجماعات تعاقب بشدة لا ما يوافق طبيعتها، بل ما يذكرها بمجاوريها أو بما تخشاه من خارجها. ولهذا لم يكن ذكر الوهابية عنده مجرد فضول أو طرفة، بل حجة تبرهن أن الأنظمة الأخلاقية نسبية، وأن ما يعد عند قوم خطيئة عظمى قد لا يكون كذلك عند آخرين.
لكن الأهم أن في اختيار نيتشه للوهابية ما يكشف عن إعجاب ضمني بها. فهي بالنسبة إليه رمز للقوة الصلبة التي لا تساوم في مبادئها، ولإرادة دينية قادرة على قلب العادات رأسا على عقب. لم ير فيها حركة ضعيفة تستجدي الرضا، بل كانت مثالا على طاقة روحية متفجرة تبني قانونا جديدا وتفرضه على مجتمع كامل. وهذا الانجذاب ينسجم مع مشروعه الفلسفي الذي رفع من شأن إرادة القوة وازدرى الأخلاق التي تعلي من الضعف. فالوهابية، في عين نيتشه، لم تكن مجرد تشدد ديني، بل تجسيد لإرادة رسالية استطاعت أن تغير وجه الجزيرة العربية وأن تدخل أوروبا في حالة قلق من أثرها.
الوهابية في هذا السياق لم تفهم في أوروبا كإصلاح محلي فحسب، بل كظاهرة كبرى تمزج بين الدعوة الدينية والسلطة السياسية
المفارقة أن الفيلسوف الذي هدم البنية الأخلاقية المسيحية وأعلن "موت الإله"، يستشهد بحركة دينية ناشئة في قلب الصحراء ليثبت فكرته. وهنا تبرز دلالة مزدوجة، أن الدين، رغم تراجع سلطته في أوروبا الحديثة، ظل في أماكن أخرى قوة قادرة على صياغة القوانين وبناء المجتمعات، وأن أوروبا نفسها، التي رأت في ذاتها مركز العالم، لم تكن غافلة عما يجري في الجزيرة العربية.
الوهابية في هذا السياق لم تفهم في أوروبا كإصلاح محلي فحسب، بل كظاهرة كبرى تمزج بين الدعوة الدينية والسلطة السياسية. فاسم "الوهابيين" استخدم للدعوة والأتباع والدولة السعودية الأولى جميعا، من دون تمييز. ولذا ليس مستغربا أن يوظف نيتشه المصطلح كما وصل إليه، محملا بكل ما نقله الرحالة والمستشرقون من روايات متضاربة، فبعضهم صورها حركة صافية للتوحيد، وبعضهم رآها رمزا للتشدد والغلظة. هذه الصورة الملتبسة هي التي عبرت إلى أوروبا القرن التاسع عشر، وترسخت حتى وصلت إلى نص فيلسوف مثل نيتشه.
إن دلالة هذا الحضور تتجاوز حدود المثال الذي ضربه نيتشه. فهي تكشف عن عالم لم يعد معزولا، بل صار مترابطا، حيث ما يجري في نجد يجد صداه في أوروبا. فبينما كانت أوروبا تعيش أزمة معنى بعد انهيار الأسس الميتافيزيقية للمسيحية، كانت الجزيرة العربية تشهد يقظة دينية جعلت التوحيد عصب الحياة ومركز الحياة السياسية والاجتماعية. كلاهما كان محاولة للخروج من أزمة الواقع، نيتشه بالبحث عن الإنسان الأعلى وإرادة القوة، والوهابية بتجديد الصرامة العقدية وإعادة رسم الخريطة السياسية. ومن هنا، يصبح إعجاب نيتشه بها مفهوما، فقد رآها مثالا على ما يمكن أن تصنعه إرادة حازمة لا تلتفت إلى ضعف ولا مساومة.
المثير أن نيتشه حين استحضر مثال الوهابية لم يتوقف عند الحروب أو النزاعات السياسية، بل التفت إلى ترتيبهم المختلف للذنوب، حيث جعلوا التدخين خطيئة أعظم من القتل أو الزنا. هذا الترتيب بدا لأوروبي القرن التاسع عشر غريبا وصادما، لكنه عند نيتشه علامة قوة، فالجماعة التي تملك شجاعة قلب المألوف وفرض سلم جديد للقيم إنما تثبت أنها تتحرك من إرادة داخلية صلبة لا من تقليد أو مساومة. في هذا المعنى، تصبح الوهابية تجسيدا عمليا لما دعا إليه نيتشه من إعادة تقويم كل القيم، ورفض الأخلاق الموروثة التي يفرضها الماضي أو الجوار.
ومن هنا نفهم أن حضور الوهابية في نصه لم يكن عارضا، بل كان متسقا مع إعجابه بكل ما يجسد الإرادة الحرة القوية التي تفرض نفسها على التاريخ. لقد رأى فيها مثالا حيا على قدرة حركة محدودة النطاق جغرافياً أن تعيد رسم الخريطة السياسية للعالم الإسلامي، وأن تبعث قلقا في أوروبا الاستعمارية، وأن تغير في حياة الناس اليومية إلى حد تحريم التدخين باعتباره رمزا للانحلال. هذا هو بالضبط ما كان يبحث عنه نيتشه، مظاهر القوة التي تهدم السائد وتعلن بداية جديدة.
فيلسوف العدمية وإرادة القوة وجد في حركة دينية من قلب الصحراء صورة رمزية للقوة التي حلم أن تستيقظ في أوروبا
وهكذا، فإن ذكر الوهابية يتجاوز كونه ملاحظة طريفة في كتاب فلسفي، ليغدو شهادة على أن نيتشه كان مأخوذا بكل ما يحمل طاقة اندفاعية قادرة على صنع عالم جديد. أوروبا بالنسبة إليه كانت تعيش شيخوخة روحية، أسيرة أخلاق فقدت قوتها، بينما كانت الجزيرة العربية تشهد يقظة دينية تحمل إرادة تغيير جذرية. ما أدهشه في الوهابية لم يكن مضمونها الديني فحسب، بل طاقتها الرسالية، وشجاعتها في فرض معاييرها الخاصة، بلا اعتذار ولا خضوع. وهنا تتجلى المفارقة الكبرى، أن فيلسوف العدمية وإرادة القوة وجد في حركة دينية من قلب الصحراء صورة رمزية للقوة التي حلم أن تستيقظ في أوروبا.