فقدان الأمل

فقدان الأمل

استمع إلى المقال دقيقة

اعتبر كثير من المفكرين أن العنف المسلح الذي صاحب حقبة الاستعمار انتهى وأن العلاقة لم تعد بين طرفين، أحدهما يريد الهيمنة والاحتلال وآخر يريد التحرر والاستقلال. ولذا، ظنوا أن لا داعي لقراءة تنظيرات فرانز فانون (1925- 1961) أو استلهام تجربة تشي جيفارا (1928-1967)، أو غيرهما من المقاومين المسلحين في عهود الاستعمار والاحتلال، خاصة وأن ما يظهر أحيانا من احتفاء بهذين العلمين لا يشير إلى رغبة لدى عدد من الأفراد والمجتمعات في تمثلهما، وإنما هو حال استهلاكي، أو ما يشبه البهرجة الإعلامية التي تكتفي بوضع صورهما على "فانيلات" سرعان ما تُرمى مع نهاية كل صيف.

لكن متابعتنا للأحداث لا تؤكد انتهاء الاحتلال تماما، فما زال هناك احتلال وعنف منظم كالذي تمارسه إسرائيل في الأراضي الفلسطينية، إلى جانب عنف اتخذ أشكالا مختلفة، أو ذُوب ليتخذ أسماء عديدة.

وإذا كانت تعريفات العنف شملت الإيذاء البدني والنفسي، سواء للذات أو للآخر، إضافة إلى العنف اللفظي واستهداف الآخر بحرمانه من الأكل والماء والرعاية الصحية والتعليم، فإن بعض العنف قد يتمثل في كل هذه الأنواع، ويتلخص في ممارسة القتل والحرب المنظمين، بهدف إبادة حياة مجتمع أو شعب، ووجدناه يُمارس على أفظع وجه، بل إنه يلقى دعما من دول ومؤسسات مهيمنة بطريقة مباشرة، عبر المال والسلاح والإعلام ومعاقبة المؤسسات القانونية والحقوقية التي تحاكم وتدين هذه الممارسات.

وهنا يكون السؤال عادة، عن مشروعية مقاومة المجتمعات والشعوب للمحتلين، وهل من حقها الدفاع عن نفسها باستخدام أساليب مسلحة، أو باتباع المقاومة السلمية على طريقة مهاتما غاندي (1869-1948). أم إن الأسلوبين لا جدوى منهما، وأن الأفضل لهذه الشعوب الاستسلام واتباع ما يقرره المحتل القوي وداعموه.

بعض العنف قد يتمثل في كل هذه الأنواع، ويتلخص في ممارسة القتل والحرب المنظمين، بهدف إبادة حياة مجتمع أو شعب، ووجدناه يُمارس على أفظع وجه

ما أظنه، في هذا السياق، أن الكثير من الأفراد والمجتمعات صاروا يتبعون كل الطرق المشار إليها هنا في مواجهة المحتل والهيمنة. فهناك جماعات منظمة اتخذت أسلوب المقاومة المسلحة لأنها ترى أن لا جدوى من التفاهم أو الحوار مع محتل متغطرس، تتكاثر مستوطناته يوميا، ولا يقر بحق بقاء الشعب المحتل في أراضيه، وحقه في إقامة دولة حرة ومستقلة. ولتحقيق هدفها في المقاومة، تسترجع مرجعيات دينية وتاريخية تراها مقدسة، وقد يتشابه خطابها السياسي/الأيديولوجي مع شتى التنظيرات، فيتوافق الإسلامي مع الشيوعي، وفرانز فانون مع جان جينيه، والاجتماعات الحزبية مع الصلوات.

هناك أيضا مَن فضل المقاومة على طريقته، وذلك بالتشبث بالحياة، كما تعمل الشاعرة الغزاوية نعمة حسن، فهي إذ تدرك، حسب قولها، أنها في طابور للموت سيأتي دورها فيه لا محالة، فإنها تواصل، مع أطفالها السبعة، النزوح من مكان إلى آخر، ومن خيمة إلى أخرى، والجري وراء لقمة العيش مع مواصلة "الصراخ"، حسب تعبيرها.

الكاتب الغزاوي يسري الغول، الذي يسجل في يومياته بعض وقائع الحرب على غزة، رفض من جانبه مغادرة بيته الذي دُمر جزء كبير منه، وأعلن أنه لن ينزح إلى جنوب غزة، بعد أن طلب جيش الاحتلال من السكان الاتجاه إلى هناك. وقال في رسالة خاطب فيها هذا الجيش "قررت أن أصمد رغم قذائف المدفعية التي تسقطونها على رؤوس الأبرياء في الشوارع وفوق البيوت، حتى لو كلفني ذلك حياتي".

ومع الأصوات، أو الاتجاهات، الثلاثة السابقة لمواجهة الاحتلال والحرب، سنرى أن هناك من يرى أهمية الحلول السلمية، ويفضل المقاومة عبر المظاهرات والحركات المدنية والحقوقية، بالرغم من عدم مبالاة المحتل وداعميه بأي صوت احتجاجي سلمي.

يبدو لي أنه ليس هناك من صوت يدعو للاستسلام، مهما تردد في الإعلام والوسائط الاجتماعية، فالكثيرون ما زالوا يخشون من تداعيات ما يجري على مصالحهم ودولهم. ولذا ما زالوا يدعون إلى إيجاد فسحة للحوار أو التفاهم من أجل الخروج إلى أفق "معقول" و"ممكن".

أما دعوات غاندي السلمية فلا تبدو صالحة في مواجهة الإفراط في استخدام العنف بكل وسائلة وقوته، فهي قد تعطي غطاء لسحق الشعوب دون صراخ. وفي معظم الأحوال تعمل هذه الدعوات على تذويب العنف أو تأجيله إلى حين. فالذي يزور الهند ويرى الفقر المدقع والتمايز الطبقي الصارخ والصراعات الطائفية العنيفة، سيتساءل: ماذا عمل غاندي حتى يصبح معظما إلى درجة القداسة؟

حين يشعر الفرد أن لا شيء سيخسره في مواجهة الموت، وتنعدم أمامه كل الحلول، سيلجأ، ربما، إلى صرخة أخيرة، أو صفعة، في وجه المحتل

مع كل هذا، سنرى كثيرين يخرجون عن الصمت والخنوع ليواجهوا العنف الفردي أو المؤسساتي المنظم ويعلنوا رفضهم لهذه الممارسات وبأساليب عديدة، بعضها يتخذ من العنف نفسه أسلوبا للمقاومة. عادة ما يكون ذلك مع فقدان الأمل في إيجاد أي حل يضمن حق الفرد أو المجتمع في الحياة. فحين يشعر الفرد أن لا شيء سيخسره في مواجهة الموت، وتنعدم أمامه كل الحلول، سيلجأ، ربما، إلى صرخة أخيرة، أو صفعة، في وجه المحتل، هي آخر ما تبقى له، بعد أن فقد بيته وعائلته وجيرانه وأصدقاءه. فهو ليس في موقع الفرجة ليرى ما يحدث من بعيد، ويذهب إلى لامبالاة شعورية، بل هو يعيش وسط ركام من بيوت وجثث وأجسام تتألم من الجراح والجوع. وإذا لم يعمل شيئا، سيجد غبار القذائف والصواريخ يغطيه، إن لم تقتله، وتحوله إلى أشلاء من الصعب التعرف على هوية صاحبها.

font change