حكاية السودان وخبره في "حادثة عيش السرايا" لحمور زيادة

استعادة ما جرى في العقود الأخيرة

غلاف رواية "حادثة عيش السرايا وما يتعلّق بها من وقائع مسلّية"

حكاية السودان وخبره في "حادثة عيش السرايا" لحمور زيادة

يمنحنا الكاتب السوداني حمور زيادة مفتاحا أوليا لقراءة روايته الجديدة "حادثة عيش السرايا وما يتعلق بها من وقائع مسلية" من خلال الإشارة في بدايتها إلى أننا سنقرأ حكاية وخبرا، في استذكار منحيين اثنين للسرد العربي القديم هما "الحكاية" و"الخبر".

ففي الرواية الصادرة أخيرا عن "دار العين" في القاهرة يستهل السارد صوته بالقول "تعال أحكي لك قصة، فالطريق طويل"، و"لا أعلم خبرا طريفا يزجي الوقت ويعين على السفر مثلما حدث معي في ماضي الأيام". والخبر في السرد سنتتبعه بشكل واضح منذ انقلاب الحركة الإسلامية (ثورة الإنقاذ الوطني) وحتى الانتفاضة الشعبية التي أطاحت سلطة الإسلاميين التي ينتمي إليها مدير مكتب الوزير، سارد الرواية، المتكئ في حكاياته الكثيرة على خبر الوقائع المعروفة، أو ما يعتبرها كذلك.

بين سلطتين

عبر هذا الصوت المقرب من السلطة، أو أحد موظفيها الكبار، سنقرأ هجاء وسخرية من شعارات الثورة أو الانتفاضة أو الاحتجاج التي يصفها بالبذيئة ويراها جالبة لخراب البلد وفوضاه. وهو إذ يستدعى إلى العاصمة بعد تأكيد أن "الأمور تحت السيطرة"، يزجي وقته، أثناء السفر، بالتعليق على ماجريات الأحداث وخلفياتها التاريخية من قبل شخصيات عديدة، أولهم الوزير الذي كان يعمل مديرا في مكتبه، وليس آخرهم، الوجه النقيض، من يدعوه بـ"إبليس"، الشاب المتحمس لشعارات التغيير والتمرد على السلطة. فالسارد عاد إلى مسقط رأسه، في أثناء الانتفاضة، فيما زوجته وأولاده والوزير سافروا إلى تركيا، وعودته إلى العاصمة تبدو فعلا رمزيا يشير إلى تواطؤ ما بين السلطة الذاهبة والسلطة الجديدة. وهو ما يفسر قول الوزير في رسالة له إن الأمور تحت السيطرة "لم أفهم كيف تكون الأمور تحت السيطرة وقد أطاح الجيش صباحا بالرئيس، وانقلب على الدولة؟ لكن صباح الجمعة حمل بعض الطمأنينة. استقالت القيادة العسكرية الخائنة التي انقلبت على النظام، وصعد الجيش قيادة وطنية أخرى. هل هذا ما قصده؟ هل كان يعلم أن الانقلاب سيفشل؟".

يظهر هذا المشهد، في حال السودان، فعلا معادا أو مكررا، حدث ما يشبهه في انتفاضات العقد الماضي في تونس ومصر وليبيا واليمن

وهكذا، بعد يومين من رسالة مشابهة تؤكد أن الأمور تحت السيطرة "فرقت قيادة البلاد الجديدة- بحول الله- كل مواطن الفوضى التي اعتصم فيها المخربون".

ويظهر هذا المشهد، في حال السودان، فعلا معادا أو مكررا، حدث ما يشبهه في انتفاضات العقد الماضي في تونس ومصر وليبيا واليمن، وربما غيرها، حيث تحول "الثائرون" الجدد إلى وتد جديد في هرم السلطة، كما شخصها سعد الله ونوس في مسرحيتيه "الفيل يا ملك الزمان" و"الملك هو الملك".

حمور زيادة

إلى ذلك، يتجلى هذا التماهي في قصة التوأم "الحاجة" و"التومة"، وهما من كرما الرئيس أثناء زيارته للبلدة بحلوى عيش السرايا التي لم تعرف من قبل. مع هذا يظن السارد أن الكراهية "هي ما يعرفه الناس عن علاقة التومة بالحاجة"، فهما "توأم من الإناث، لا يميز بينهما شيء. حتى الدم الذي لوثهما خارجتين من رحم أمهما، قسم عليهما بالتساوي. تصرخان في نفس الوقت. كأنك تنظر إلى نسختين من ذات الصورة".

تفكيك الخطاب

يبدو أن حمور زيادة مضى في لعبة سردية حاول فيها أن يظهر خطاب السلطة من خلال صوت السارد، لكنه عمل في الصوت نفسه على تضمين خطاب المعارضة. وذلك دون منطلقات سياسية محددة تغلق آفاق القص، بل مضى في مخيلته إلى كل ما يمكن أن يعزز بناء الحكاية التي أرادها كما في العنوان "وقائع مسلية". فهناك، مثلا، من يدعي في المسجد أنه "الله" في سلوك اعتبر ضربا من الجنون. و"إبليس" المعارض، يعيد السارد "طبيعة" سلوكه إلى أمه التي تدعى "الطبيبة"، وكانت تتجرأ لتعبر عن رأيها أمام الرجال بشكل فاضح. ولا تصمت حين يتطلب الموقف منها الكلام، بل إنها "طلقت" من زوجها بسبب حدة رأيها.

مع محاولة إيجاد توازن بين صوت السلطة وصوت المعارضة، يتيح الكاتب للصوت الأول "سلطته" الخطابية، وكأنه يدعونا لإعادة قراءته وتفكيك لغته

والحكايات تتناسل، من الحكاية الأولى، وعمادها رجل السلطة في السودان المعاصر، فنجد إمام المسجد مسرودا بعد الرجوع إلى أسلافه، حيث ورث الإمامة من أبيه وجده، لكنه صار يشارك "في لوثة الثورة والفوضى"، ويلقي خطبا "تحرض ضد البلاد"، حسب وجهة نظر السارد، يلبس الجلباب الأبيض يوم الجمعة "ويؤم المصلين بلا حياء في بقية الصلوات بالبنطلون والقميص". وبحكم عمل السارد في مكتب الوزير اطلع على تقارير أمنية "ذكرت أنه يدخن السجائر خفية، وأحيانا الشيشة".

ومع محاولة إيجاد توازن بين صوت السلطة وصوت المعارضة، يتيح الكاتب للصوت الأول "سلطته" الخطابية، وكأنه يدعونا لإعادة قراءته وتفكيك لغته، كما فعل من قبل الباراغواياني أوغسطو روا باستوس في خطاب الديكتاتور بروايته "أنا الأعلى".

 فهذه السلطة تدعي أنها أنقذت البلاد من اليباس الذي أصاب كل شيء "نحن ثورة الإنقاذ الوطني. المشروع الحضاري. الحركة الإسلامية التي أتت لتنقذ البلاد والعباد، ليس في السودان فحسب. فمن أنتم؟".

حمور زيادة

وإذ يشير السارد إلى مجموعة ممن يعتبرهم أساس الخراب، الشيوعيين والبعثيين والعلمانيين، فإن صوت المعارضة يحاصره من كل مكان، حتى وصل إلى ابن أخيه الذي يرصد حالات اختفاء المعارضين الذين لا يعرف أحد أين ذهبوا، وإلى أبناء المسؤولين "فكل القادة اشتكوا من أن الغول خطف أولادهم وبناتهم، ودخل عليهم حصونهم. أبناء الوزراء في المظاهرات. بنات المسؤولين في المواكب. والمعتقلون من أسر الضباط كثر. متى ربى الغول كل هذه الأفراخ في بيوتنا؟ أبناء قيادات الحركة الإسلامية يصرخون في الشوارع بسقوط حكم الحركة الإسلامية".

خطاب حاشد

يمضي حمور زيادة في هذه الرواية إلى أقصى حد في السرد السياسي، فنجده حادا في كشف معتركات الحياة السياسية في السودان خلال العقود الأخيرة، مسميا الأحزاب والجماعات، وهذا عماد الخبر. وهو يرى لعبة تدور من السلطة وحول السلطة ولا تنتهي. لا يعني هذا أن الكاتب ركز على تشخيص السلطة وماهيتها، بل مضى أبعد من هذا، إلى ما تزرعه السلطة في المجتمع من تناقضات، يمكن أن تتغلغل حتى إلى الخطاب المعارض، فتصبح جزءا منه. فأبناء السلطويين يتحولون إلى المعارضة بسهولة، ليس هذا بمثابة قرار اختياري، أو مفضل لديهم، بل هو فعل متماه لا يجيب عن الأسئلة التي تظل ملحة.

أنقذ حمور زيادة روايته السياسية في كثير من تعرجات السرد، سواء في الحكايات أو في اللغة

نحن أمام رواية عن فساد السلطة ونظامها المتسلح بخطاب أيديولوجي يستطيع أن يحشد مائة ألف "مجاهد" للذهاب إلى الجنوب "نحن للدين فداء/ فليعد للدين مجده/ أو ترق منا الدماء/ أو ترق منهم دماء/ أو ترق كل الدماء".

 مع كل هذا الخطاب، أنقذ حمور زيادة روايته السياسية في كثير من تعرجات السرد، سواء في الحكايات أو في اللغة، فهناك لغة شعرية في صوت سارد السلطة وهذيان: "الآن أرى! في هذا الصمت أرى. وحدي، في الصمت. أراقب الطوفان! لماذا؟ لا أعرف. هل سأعرف يوما؟ ربما".

لذا، أظن أن السودانيين سيقفون مع هذه الرواية كثيرا، سواء في استعادة تفحص ما جرى لهم في العقود الأخيرة، أو في سؤالهم عن ماذا بعد.

font change

مقالات ذات صلة