ثلاث سير سودانية عن الحياة والكتابة

قصص عن الجن والواقع والهجرة

عبد العزيز بركة ساكن

ثلاث سير سودانية عن الحياة والكتابة

لا يبدو أن في الإمكان فصل تجارب ثلاثة كتاب سودانيين في الكتابة عن تجاربهم في الحياة عامة. فقراءة سير وتجارب الروائيين أمير تاج السر وعبدالعزيز بركة ساكن وطارق الطيب تكشف عن الكثير من جوانب المجتمع السوداني وتحولاته أكثر مما تكشف عن هواجس هؤلاء الكتاب في الكتابة.

قصص الجني

في كتابه "الجني الذي قالت أمي مريم إنه يملي علي القصص" الصادر عن "منشورات تكوين" في الكويت وبغداد، يقدم الروائي السوداني عبد العزيز بركة ساكن سيرة ذاتية لطفولته ومراهقته، وقراءاته الأولى وبداياته في الكتابة التي ضاعفت سنوات دراساته الجامعية في إدارة الأعمال بأسيوط في مصر، ويخلص إلى تقديم جملة من التصورات حول الكتابة من خلال تجربته.

يقول ساكن الذي أعطاه الطبيب عمرا تقريبيا (1/1/ 1963) بعد أن فحص أسنانه، إثر تلف ورقة شهادة الميلاد، إن أسرته تنقلت كثيرا ما بين كسلا والقضارف وخشم القرية وجبيت وبورتسودان. ويسرد لنا حياة عائلته في بيت كانت تتبع سجن شرطة السجون، حيث كان يعمل أبوه. وقيل إن البيت كان يسكنه الجن ولهذا ظنت أمه مريم بنت أبو جبرين أن الجن هم من يملون عليه القصص.

أما عن رحلته في القراءة فبدأت حين سرق من غرفة أخيه كتاب "قصص الرعب والخوف" لإدغار آلن بو بترجمة خالدة سعيد، وهو كتاب بدا متفقا مع ما كان يسمعه من زوج خالته وهو يقرأ للعائلة من كتاب "قرة العيون وفرحة القلب المحزون"، الذي يجعل الفرائص ترتجف بتنقله بين "الجحيم والسعير والثعبان الأرقط وعذاب القبر". لتتضاعف قراءته بعد أن صار يجمع المال لشراء الكتب من طريق عمله في المزارع ومساعدته الخياطين، أو عمله في البناء في العطل المدرسية.

يشير ساكن إلى دور المثقفين الأدباء في كتابة تقارير المنع ويعزو معظمها إلى "الحسد والغيرة الأدبية"

ومن هذه الأجواء كتب أولى محاولاته، وكانت عن الجن، قبل أن يكتب أولى قصصه القصيرة لتنشرها مجلة "الناقد".

ساكن لم يكن على وفاق مع الحصص الدراسية، وكان يحسد أولئك الأطفال الذين "لا يذهبون إلى المدارس المملة ولا يلتقون المعلمين الشرسين"، حيث يعتاد الطلاب الضرب بشكل يومي "ولم يعد مؤلما أو مهينا".

غلاف كتاب "الجني" لعبد العزيز بركة ساكن

وفي دراسته الجامعية لم يلق ترحيبا من الأسرة حين أراد أن يدرس النقد المسرحي، وفرحت أمه حين أخبرها بأنه قُبل في كلية التجارة لما تحمله كلمة "التجارة" من دلالة مالية، في وقت لم يكن يحصل فيه أحد على المال إلا إذا كان طبيبا أو وزيرا "أو أن يولد في أسرة الصادق المهدي أو الميرغني أو أن يصبح تاجرا".

واضطرت أمه إلى بيع بيتهم في القضارف مقابل 400 جنيه، لتوفر له ما يحتاج في سنوات دراسته في مصر.

أكثر ما يلفت في السيرة، إلى جانب غرائبية بعض ما جاء فيها، هي تجربة ساكن مع الرقابة ومنع كتبه. وأبرزها طلب إدارة جائزة الطيب صالح منه إلغاء جمل وكلمات ومشاهد وردت في روايته الفائزة "الجنقو مسامير الأرض" من أجل الحصول على تصريح بالنشر. وكذلك نقاشه مع وزير الثقافة الشاعر مجتبي الكتيابي الذي صادرت وزارته مجموعته القصصية "على هامش الأرصفة" بالرغم أنها صدرت عن الوزارة نفسها (2005). ففي لقاء عام، تطرق الوزير بالنقد الى قصص ساكن، فطلب هذا الأخير من الوزير الشاعر أن يقرأ قصيدة له كان كتبها عن سيدة قبطية، فتحرج الوزير واضطر بعد إلحاح إلى قراءة بعض الأبيات من القصيدة، إلا أنه لم يستطع أن يخفي مضمونها، الذي يتركز في موضع خاص في المرأة. ويشير ساكن إلى دور المثقفين الأدباء في كتابة تقارير المنع ويعزو معظمها إلى "الحسد والغيرة الأدبية".

يعطي ساكن رؤيته لقراءة الكتب، عبر مراحل عدة مر بها، وباعتباره كاتبا يقول إنه لا يقرأ النص، بل أسلوب المؤلف. ويتحدث عن علاقة لغة الشعر والتاريخ بالرواية، وعلاقة الكاتب بالناشر العربي. ويذكر أن أكثر دروس تعلم كتابة الرواية تعود إلى قواعد وجدت في القرن الثامن عشر وأن الرواية كمصطلح حديث "لا تشمل الأساطير والقصص الشعبية التي لها آليات كتابة مختلفة وظروف نشأة وتطور خاص".

الكاتب السوداني أمير تاج السر

قلم زينب

للكاتب أمير تاج السر ثلاثة كتب حول سيرته الذاتية، "مرايا ساحلية" و"سيرة الوجع" و"قلم زينب". وإذ كُتب الأول بطريقة روائية، وقدم الثاني حكايات شخصيات عاصرها الكاتب الطبيب في عيادته أو في محيطها الاجتماعي، نجده في الكتاب الثالث، الصادر في طبعات عدة، جمع بين الأسلوبين، فهو من خلال عيادته في مدينة بورتسودان اتخذ خيطا يجمع بين مختلف الشخوص الذين تحدث عنهم وأولهم إدريس علي الذي بقي هاجس القص طوال الرواية.

في سرده بعض شخصيات الكتاب، يشير الكاتب إلى أنها ربما تنفع "في رواية قد أكتبها ذات يوم"

يأتي إدريس إلى عيادة الكاتب الطبيب خريج مصر، ليهنئه بافتتاح عيادته، ويقول له إنه هو أيضا درس في معهد اللاسلكي في القاهرة، ويهدي اليه قلما يرجوه أن يقبله "من أجل زينب"، دون أن يقول من هي زينب. ولاحقا سنجد الكثير من الحوادث مرتبطة بهذه الشخصية، فهو يقوم بالكثير من الحيل والخدع على الناس بدعوى صداقته للطبيب، فيرسل اليه مجموعة من المرضى ليعالجهم مجانا، يقولون له "نحن مرسلون من صديقك إدريس علي". وهي العبارة نفسها، أو ما يشبهها، تقولها امرأة مريضة تأتي إليه، وحجاج يصلون إلى منزله ليسكنوا مؤقتا قبل أن يذهبوا إلى الحج.

مع تخصص الطبيب في فروع الأمراض كافة، اختار قسم النساء والتوليد في المستشفى، وكان لا بد من عيادة مسائية لزيادة الدخل، وهي العيادة التي منحته فرصة التقاء كل شخوص الكتاب، بعد أن عانى في البداية من قلة تردد المرضى على العيادة، حتى إن ممرض العيادة قام بطرق بيوت عديدة "يعرف أن فيها مرضى مزمنين" وعرض عليهم خدمات "الطبيب الجديد البارع".

غلاف كتاب "قلم زينب" لأمير تاج السر

في العيادة، وفي المستشفى أيضا، هناك من يأتي ليستشير إذا كان في الإمكان أن يتزوج وهو في الثمانين. وهناك سماسم التي تخطب الطبيب فيفرح حين يحبها أحدهم، وهويدا التي تريد طريقة تقرب فيها حبيبها إليها، ونجفة التي تشكو من صداع نصفي مزمن، أحد أسبابه زوجها، الذي يجد الطبيب صورته في ملفها الطبي. وامرأة لا تعبأ أن ترى مولودها الذي حبلت به دون زواج. إضافة إلى عريس يستأجر من إدريس سيارة الطبيب دون علمه، وشرطي لا يحسن ربط شريطه العسكري على كتفه. وشخصيات أخرى تغرق في الشعوذة والحب والخدع واللصوصية.

في سرده بعض شخصيات الكتاب، يشير الكاتب إلى أنها ربما تنفع "في رواية قد أكتبها ذات يوم"، كما وجدناه في كتاب "سيرة الوجع" يتذكر قصة "آدم كذب" التي كتبها في "مرايا ساحلية".

طارق الطيب

محطات أولى

يشمل فهرس كتاب "محطات من السيرة الذاتية"، الصادر عن "دار العين" في القاهرة، للكاتب السوداني المولود في القاهرة طارق الطيب، جملة من المواضيع المتنوعة في جوانب السيرة، إلا أننا حين نقرأ الكتاب نجد أن مواضيعه تكررت في أكثر من فصل أو جزء، كحديثه عن مكان ولادته في حي عين شمس، أقصى شمال القاهرة، وهو الحي الذي كانت تقطنه جالية سودانية كبيرة، أو سفره إلى السودان والعراق، ومن ثم ذهابه إلى تركيا وصولا إلى فيينا، حيث يعيش هناك من عام 1984.

قارئ هذه المحطات لطارق الطيب، يشعر أنه أمام مقدمة، أو هوامش أولى، لكتاب سيري، قد يكون أغنى في تفاصيله وأقرب إلى حياة الكاتب المتنوعة

إلا أن الكتاب يقدم معلومات مهمة عن تجربة الكاتب في الحياة والكتابة، ومن ذلك بقاؤه يحمل الجواز السوداني، رغم مولده ونشأته في مصر(1959)، مما اضطره إلى دفع تكاليف الدراسة الجامعية كأجنبي، قبل أن يذهب إلى النمسا ويلقى هناك الترحيب، مع ملاحظات يكتبها عن تجاوز الكثير من الصعوبات مثل اللغة.

يتحدث الكاتب عن طفولته في أوائل ستينات القرن الماضي، "طفولة لم تر بعد شاشة فضية ولا سينما، طفولة الإنصات والاستماع، طفولة الراديو والكتاب والحفظ"، حيث تعلم الأبجدية قبل المدرسة. ويتحدث عن شيخ الكتاب الذي كان يعلمهم في المسجد ويصر "على أن يفصل الأولاد عن البنات، رغم أننا خارج الجامع نخرج لنسير معا، فهذه أختي وتلك جارتي وهذا صديقي الحميم في اللعب".

غلاف كتاب "محطات من السيرة الذاتية" لطارق الطيب

ويشير إلى ضياع حظ أمه زينب من التعليم "حيث منعها وأختها مسك اليمن، خالهما من دخول المدرسة، الذي أُقفل دماغه على أن الأنثى لا يصح لها الخروج إلى الشارع، وبالتالي إلى المدرسة".

وفي النمسا، لم تكن حدود اللون معروفة في السنوات الأولى "فأعدادنا كانت جدا قليلة"، لكن الصورة اهتزت في السنوات الأخيرة "بعد اجتياح أعداد كبيرة من طالبي اللجوء الأفارقة للبلاد".

قارئ هذه المحطات لطارق الطيب، يشعر أنه أمام مقدمة، أو هوامش أولى، لكتاب سيري، قد يكون أغنى في تفاصيله وأقرب إلى حياة الكاتب المتنوعة.

font change