أنقذوا صنعاء

أنقذوا صنعاء

استمع إلى المقال دقيقة

في بداية سبعينات القرن الماضي وجه المخرج الإيطالي الشهير بيير باولو بازوليني (1922-1975) "نداء بصريا" لإنقاذ صنعاء، من خلال فيلم قصير بعنوان "أسوار صنعاء"، بعد أن أدهشته عمارتها الجميلة المهددة بالاندثار. وأظن أن النداء من أجل إنقاذ صنعاء صار ملحا الآن أكثر مما كان عليه قبل خمس وخمسين سنة بسبب ما تتعرض له أبنية المدينة القديمة من تدمير وإهمال.

صحيح أن منظمة اليونسكو لبّت نداء بازوليني متأخرا، عام 1986، إلا أن الظروف الراهنة التي يمر بها اليمن، وأثرت بشكل كبير على "صنعاء القديمة" ومعظم آثار اليمن، تستدعي استعادة هذا النداء من بازوليني والذي قال فيه إن صنعاء "واحدة من أجمل مدن العالم. مدينة من الطوب اللبن، ذات أبراج عالية، مزينة بزخارف بيضاء، تشبه الدانتيل. مدينة فريدة من نوعها، حيث لا يوجد شيء مشابه لها في العالم". وكأن بازوليني أراد في ندائه إنقاذ صنعاء من اليمنيين أنفسهم، حيث رأى أن "المدينة مهددة بالدمار بسبب التحديث السريع وغير المنظم. الأسوار القديمة تُهدم، والمباني الحديثة تُبنى بلا احترام للطابع المعماري التقليدي". واعتبر أن "فقدان صنعاء سيكون خسارة لا تعوض للإنسانية جمعاء".

وإذا كانت اليونسكو ساهمت بشكل كبير في إنقاذ جوانب من صنعاء القديمة، فإن هذه المدينة التي اختلفت الآراء حول تاريخ نشأتها، صارت مهددة حاليا من عوامل طبيعية كالأمطار والسيول، بسبب عدم صيانة مبانيها على نحو كافٍ. ففي السنوات الأخيرة دمّر الكثير من المنازل (أحدها الأسبوع الماضي)، ومن بينها منزل الشاعر عبدالله البردوني القديم الذي كان يستخدمه مخزنا لطبعات كتبه الحديثة.

من يعرف مكانة صنعاء القديمة في التراث الثقافي الإنساني، سيدرك ماذا يعني تجديد النداء لإنقاذها، ففيها آثار "قصر غمدان" الذي ذُكر بأوصاف أسطورية، وقيل إن بعض أحجاره كانت عماد الجامع الكبير

من يعرف مكانة صنعاء القديمة في التراث الثقافي الإنساني، سيدرك ماذا يعني تجديد النداء لإنقاذها، ففيها آثار قصر غمدان الذي ذُكر بأوصاف أسطورية، وقيل إن بعض أحجاره كانت عماد الجامع الكبير، الذي يعد من أقدم المساجد التي بنيت في بداية الإسلام. وفي الجامع مكتبة للمخطوطات النادرة، حتى إن الدارسين لمخطوطات القرآن يؤكدون أن المخطوط الذي وجد في هذه المكتبة يُعد من أقدم مخطوطات هذا الكتاب المقدس.

وفي صنعاء القديمة، سنجد نجمة داود وآثارا يهودية ما زالت على الأبواب و"قمريات" النوافذ. ومن المعروف أن أبرز نسخ التوراة كُتبت باللهجة اليمنية. وفيها أيضا، آثار معابد قديمة، وكنيسة، أو كاتدرائية، "القليس"، التي بناها أبرهة أثناء الوجود الحبشي في اليمن.

رؤيتنا لعماراتها، في الواقع أو في الصور، تكشف عن تحفة فريدة في ذاكرة الزمن لا شبيه لجمالياتها، بُنيت بمخطط هندسي يتلاءم مع تبدلات الطقس واحتياجات السكان. وهي الآن، وبسبب الحركة الاجتماعية، بحاجة إلى ترميم دائم، من خلال صون ألوانها وتجديدها بالمقاييس الفنية المتعارف عليها، والتي تكاد تُنسى بعد وفاة الكثير من العاملين في هذا المجال، الذين كانوا يعتمدون على مواد طبيعية في أعمالهم.

ولقد فاقمت المتغيرات السياسية من تشويه جماليات المدينة القديمة، فصارت جدرانها ملطخة بالشعارات الميليشياوية الطائفية، مع تخوف من أن تصبح أبرز ساحاتها مزارا طائفيا. وكثيرا ما تعرضت صنعاء لحملات نهب وتخريب من القبائل المجاورة، وتردد عن سلوك أبنائها المتمدن، أن أحدهم حين شاهد رجال القبائل يقتحمون منزله وينهبونه إثر فشل ثورة 1948، كان يقول لهم: "بنظام، بنظام"، أي يمكنهم نهب ممتلكاته ولكن بشكل منظم.

فاقمت المتغيرات السياسية من تشويه جماليات المدينة القديمة، فصارت جدرانها ملطخة بالشعارات الميليشياوية الطائفية، مع تخوف من أن تصبح أبرز ساحاتها مزارا طائفيا

وقد أثارت أسواق صنعاء العتيقة، بنظامها، اهتمام الباحثين، وأبرزهم الفرنسي فرانك ميرميه الذي أنجز كتابا مهماً بعنوان "شيخ الليل: أسواق صنعاء ومجتمعها". كما كتب الباحث الفرنسي جان لامبير كتابا عن أغانيها بعنوان "طب النفوس"، إلى جانب عشرات الأبحاث والكتب التي تناولت تاريخ المدينة، ومنها كتب الهمداني وابن المجاور وابن البديع وابن رسته والرازي ونيبور. والمدينة التي سكنها "الأبناء" الفرس و"البانيان" الهنود، ومجتمعات مختلفة أخرى، عاش في عماراتها الكثير من الأوروبيين والأميركيين وبعضهم غادرها أخيرا بسبب الأوضاع الحالية بعد أن عاش فيها لعقود.

نعرف أنه ليس من الممكن استعادة صنعاء البساتين والحدائق وينابيع المياه التي وصفها الأولون، حتى جاء في كتاب "البصائر والذخائر" لأبي حيان التوحيدي على لسان أحدهم القول: "بلغ من طيب ترابها أن الرجل يسجد فلا يشتهي أن يرفع رأسه"، لكنها من الممكن أن تعود كما أراد لها بازوليني، الذي صور فيها بعض مشاهد فيلمه "ألف ليلة وليلة" (1974)، أو بما وصفه الروائي الفرنسي جيروم فيراري في مقدمة الترجمة العربية لروايته "موعظة عن سقوط روما": "ذهبنا إلى صنعاء، وأمام هذا الجمال الأخاذ، أدركتُ كم هي باهتة وضئيلة أحلامنا أمام ما يشكله الواقع".

مع هذا، يمكننا أن نستذكر شاعرها البردوني، إذا تابعنا تقلبات الأيام: "ماتت بصندوق وضّاح بلا ثمن/ ولم يمت في حشاها العشق والطرب".

هكذا، فإن الدعوة لإنقاذ صنعاء، هي أيضا دعوة لإنقاذ أعمدة معبد الشمس في مأرب، حيث كانت ملكة سبأ، وهي أيضا استعادة لجبل النبي شعيب، وأحقاف حضرموت وقبر النبي هود، وآثار السيدة الصليحية، وعدن الصهاريج وآرثر رامبو، وتجليات تعز في زخارف الأشرفية، وبهاء أعلام زبيد في التاريخ والأدب والفنون.

font change