مؤتمر حل الدولتين يعيد التوازن لقضية فلسطين

مؤتمر حل الدولتين يعيد التوازن لقضية فلسطين

استمع إلى المقال دقيقة

في عالم تُختطف فيه القضايا العادلة على أيدي المتطرفين، ويغيب فيه المنطق خلف ضجيج العنف والأدلجة، جاء "مؤتمر حل الدولتين" في نيويورك للعمل على مسار نحو تسوية قضية فلسطين، بوصفه واحدا من أهم المحاولات الجادة لإعادة إحياء فكرة الدولة، لا كحلم يتردد في بيانات القمم، بل كمشروع سياسي قابل للتنفيذ، تدعمه إرادة دولية نادرة، وتقوده السعودية وفرنسا، ويتوج بتحرك غير مسبوق من الجمعية العامة للأمم المتحدة.

بالمعايير الواقعية، ما جرى في نيويورك ليس مجرد مؤتمر إضافي على أجندة الأمم المتحدة، بل لحظة فارقة أعادت ترتيب أولويات المجتمع الدولي تجاه القضية الفلسطينية، بعد سنوات من التهميش، وتراجع الطرح السياسي الواقعي، وغلبة صوت السلاح، ولأول مرة منذ أكثر من عقدين، تعود صيغة "حل الدولتين" بشكل جاد إلى قلب المشهد، لا من بوابة الخطب والمواقف، بل عبر وثيقة معتمدة بتأييد ما يزيد على 150 دولة، تجسد رغبة عالمية صريحة في إنهاء الاحتلال، وإنقاذ غزة، وبناء دولة فلسطينية قابلة للحياة.

لا يخفى أن وصول المؤتمر إلى هذا المستوى من التوافق ما كان ليتم لولا الجهد السعودي الجاد والمستمر، الذي أعاد التموضع السياسي حول القضية الفلسطينية، وجعل منها ملفا قابلا للتفاوض لا للتجاذب، والرياض وبشراكة مؤثرة مع باريس، لم تكن تبحث عن دور رمزي في إدارة هذا الملف، بل قدمت رؤية متماسكة توازن بين الشرعية الدولية والواقعية السياسية، وتفتح نافذة على مستقبل قد لا يكون مثاليا في المستقبل القريب، لكنه أفضل بكثير من استمرار دورة العنف.

وبينما قد يقلل البعض من أثر هذه المخرجات بدعوى أن إسرائيل ترفض الانخراط، أو أن الوقائع على الأرض في الضفة وغزة تناقض أي حديث عن تسوية، إلا أن التحرك الدولي الواسع الذي صاحب المؤتمر، يشير إلى أن شيئا قد تغير فعلا، حيث نعاصر الآن اعترافات جماعية بدولة فلسطين من قبل دول وازنة وعلى رأسها المملكة المتحدة وفرنسا، كما أن هناك التزاما دوليا بإرسال بعثة استقرار لتحقيق التهدئة، وخطة واضحة لإصلاح السلطة الفلسطينية الحالية، ودعم لبنية الحكم، وتوجه جاد نحو إنهاء الانقسام الداخلي عبر تسليم إدارة قطاع غزة للسلطة الفلسطينية، ونزع سلاح "حماس" بإشراف ودعم دوليين، بالإضافة إلى تعهدات وإجراءات عملية لا يمكن التقليل منها تحت ذريعة أنها لا توقف الحرب اليوم... وفورا.

لكن الأهم من ذلك، أن المؤتمر وجه رسالة مزدوجة، تكمن في أن الاعتدال قادر على صياغة أجندة دولية تقنع هذا العدد من الدول، وتحرج الحكومة الإسرائيلية أمام مجتمعها الدولي، وتعزل الأصوات المتطرفة في الجانبين، ورسالة أخرى تعيد التأكيد على أن القضية الفلسطينية لم تمت، بل في طريقها لاستعادة شرعيتها، ولكن بأدوات متجددة، تتجاوز الخطاب الشعبوي، وتعيد تعريف الممكن سياسيا.

فالمؤتمر لا يعد بانفراجة سريعة وفورية، ولا ينطوي على حلم انتهاء الصراع بين ليلة وضحاها، بل هو بداية مسار طويل، محفوف بالعقبات

هنا تجدر الإشارة إلى أن معارضي المؤتمر ينقسمون إلى تيارين، أحدهما يرفض أي حل سياسي ويؤمن فقط بخيار العنف المسلح، والآخر يريد حلا بشروط القوة والدمار، دون أي تنازلات أو وقف للاستيطان أو التزام بقرارات الشرعية الدولية، فالطرفان يقتاتان على الجمود ويفزعهما أي اختراق يعيد التوازن للملف، لذلك لم يكن غريبا أن يهاجم المؤتمر من متطرفين في الجانبين على حد سواء، فهؤلاء جميعا يتفقون ضمنيا على بقاء الوضع كما هو.
ومع ذلك، فالمؤتمر لا يعد بانفراجة سريعة وفورية، ولا ينطوي على حلم انتهاء الصراع بين ليلة وضحاها، بل هو بداية مسار طويل، محفوف بالعقبات، ومعرض للانتكاسات، لكنه مسار مختلف عما سبقه، لأنه جاء من واقع سياسي ناضج، وبرعاية وتفويض دولي غير مسبوق، ما يجعله أقرب لأن يكون "تأسيسا جديدا" لفكرة الدولة الفلسطينية، وليس مجرد مبادرة أخرى تُضاف إلى أرشيف المبادرات.
في النهاية، لا يمكن اختزال مؤتمر حل الدولتين في كونه مجرد خطوة سياسية عابرة، حيث إنه منح الدولة الفلسطينية اعترافا لا يمكن تجاهله، ومسارا قابلا للبناء، وحاضنة دولية واسعة تعيد إلى الطاولة مفردات قد غاب طرحها بشكل جدي وفاعل مثل: (إنهاء الاحتلال، ووحدة الأراضي، ودعم السيادة، ووقف الاستيطان)، وبين تشكيك المتشائمين ومبالغة المتفائلين، يبرز خيار ثالث، يتمثل بالتحرك جديا في طريق البناء على ما تحقق دون وهم أو إنكار، لأن التاريخ لا يصنع من خطوة واحدة، بل من تراكم الخطوات... واستمرارها.

font change